رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

بِلادُ النُّور وبِلادُ «الطُّوْر»

يُقال عن باريس إنها «عاصمة النور»، وذلك لأنها في عام 1828 كانت أول مدينة في أوروبا تُضاء بمصابيحَ تعمل بالكيروسين، وربما لأنها العاصمة الأكثر ثقافة وحرية، حسبما أرجّح أنا سبب التسمية، ويُقال للندن «مدينة الضباب»، رغم أنه لا يوجد للمسمَّى حكاية تدل عليه، وليستْ لندن، فيما أظن، المدينة الأكثر ضبابًا، لكنها اشتُهرت بذلك وسلَّم الجميع بهذه الشهرة.

أما روما، عاصمة إيطاليا، فسُميت بـ«المدينة الأبديّة»، لكونها أحد أهم وأعظم المدنِ في الحضارةِ الغربية، فقد كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانيّة، وهي الآن القلب الروحي للكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

أما أساطيرُنا نحن فتخلو من المسمَّيات الحقيقية وتلجأ، من ضعف واقعها، إلى المجاز الفسيح، الذي لا يمت للحقيقة بصِلة، فتقول الأساطير عن بلادنا مثلا إنها «أمُّ الدنيا»، ولم تحدد الأسطورة أيّ دنيا؟ فعلى ما يبدو أن الدُّنى كانت كثيرة أيام نُسجت خيوطُ الأسطورة، وعلى ذلك يمكن أن تضيف أجيالٌ لاحقة فرضية جديدة وهي أن بلادنا وُلدت مع فجر التاريخ، أو بصدقٍ أكثر، بعد الفجر بقليل، وأيقنتِ الأجيال أنه وقتَ أن كان العالم يعيش في الغابة، «مصر كانت لها دولة ولها راية فوق أعلى سحابة»..

ويتساءل كثيرون هل حدثَ هبوطٌ أرضي لمصر وأمسَت تحت السحابة وليست فوقها؟ وهل تحوّل لونُ السحابة المذكورة، بفعل تلوث الأساطير، إلى أن صارت «سحابة سوداء»؟

المهم أن المصريين اتفقوا ضمنيّا فيما بينهم على أنه «بما أن مصر أقدم حضارة وأول بلد، فبالتالي هي أجمل بلد»، وولدها على هذا «أشجع ولد».

وفسّر مفسّرون خبثاءُ، أظنني منهم، أمومة مصر برَضاعة الأمم الأخرى لها حين وجدوها يافعة نضرة.. هكسوس.. رومان.. يونان.. فرس.. ترك.. مماليك.. عثمانيون.. عرب.. فرنسيون.. إنجليز، وأمريكان بمبدأ «الاستعمار عن بُعد»، وربما أيضًا بلاد ما بعد الأمريكان، أقصد الصين وأخواتها بمنتجاتهم التي تقضي على قدرتنا على إنتاج ما نستعمل.. «استعمار العقم الإنتاجي»

وراج اسم «أم الدنيا» وصار حقيقة لا يصدقها غيرنا.. أمٌّ للشرفاء والبطلجية معا، يتعايشون على أرضها في حالة تناغم عجيبة في حماية كسالى يريدون بقاء التعايش على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء إلى «أي حتة».

أمٌّ لقوم جلسوا في الظل وحولهم ماءٌ يتفنَّنون في صياغة أمثال تُعلي من شأن الكسل وتكرّس لموهبة إضاعة الوقت، العمر، مثل«خلي الوقت وقتين.. والسنة دي وراها الجاية.. وساعة الحظ ما تتعوضشي.. »

وراج اسم «أم الدنيا» وعاش على أرضها أناسٌ لا يغيّرون حياتهم تغييرًا كاملا وصحيحًا، بل لا يزالون يتجادلون حول:

برلماني أم رئاسي؟ نبني الكباري أم نحفر الأنفاق؟ مدرب أجنبي للمنتخب أم وطني؟ وزارة إعلام وثقافة للدولة أم حرية؟ حكم عسكري أم مدني أم «نُص نُص»، ديني متمدين يعني؟ نتصالح مع إيران مثل إسرائيل أم نتراقص بين الرغبة الشعبية والخطط الحكومية؟ نصوم رمضان مع بلاد تشترك معنا في جزء من الليل أم نتفرد بالاختلاف؟ نفتح المعبر كلُعبة سياسية أم نقضًا ومعاكسة للماضي البائد؟..

‏أمّا عاصمتنا، القاهرة، والتي اشتُهرت أولا بـ«قاهرة المعز»، ربما يُفسَّر اسمُها بأنها قهَرَتِ المُعز، الذي بناها وربَّاها، و«موتته بحسرته»، كما اشتُهرت سينمائيًّا بـ«هوليود الشرق» لمجرد أن فنانين عرب هربوا من بلادهم لظروف سياسية وغيرها، ليقيموا فيها كملاذٍ للمطارَد والفاسد والمشرَّد، الذي تقول عنه اللغة الإنجليزية، homeless، واشتُهرت كذلك بـ«المحروسة»، وهذا المُسمَّى بالتحديد ما يجعل العينين تجْحَظان دهْشةً، لأنه إذا لم تكن القاهرة محروسةً «كانت أحوالها بقت إزاي»؟

إذًا فالمقارنة واجبة، هناك ترى الكلام عن العواصم يضم مفردات «الأبدية والنور والضباب»، أما هنا فتجد الكلام عن مدننا يذكر «المحروسة، والاسم المستعار، هوليود، والمسمّى الحيواني، «الطّور»، ذلك الجبل المكسوّ بالخضرة، الذي يُقال إن الله كلم النبي موسى عليه «تكليما»، فلماذا أسموه بهذا المسمّى الدال على عدم الفهم في العامية المصرية، رغم أنه «مكان مملوء بالبركة»؟ وأعود لأفسّر بخبثٍ: ربما لتقديسنا عدم الفهم.

وجاء أخيرًا اسم «مدينة الألف مئذنة»، ليلمع لمعان النجوم، وغالبًا ما كان لشهر رمضان فضلٌ في رَواج هذا الاسم، لكن العامل الحاسم والفعّال في رواجه، حسب ظنّي، أنك هنا في القاهرة، عاصمة الزحام والشحّاتين والفوضى المرورية والتلوث، يمكنك أن تؤذّن في الناس وأنت «ضامِن» أنه لن يسمعَك أحدٌ.