عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

جناية القرضاوي.. واستنارة محمد عبده

لمحته يهرول إلىّ مسرعاً عقب ندوة كنت أديرها بمعرض الكتاب حول كتاب جديد عن ظاهرة القرضاوي.. كان يبدو كمن يتطاير الشرر من عينيه.. وما إن وقفت له حتى راح يبادرني بقوله: لماذا تهاجمون الرجل وتفترون عليه بهذا الشكل؟ هل لأنه خالف رأيكم وقال بما لا تقرونه؟ أين حرية  الفكر التي تدعونها وتدعون إليها.. أم أنها حرية مقصورة على الاتفاق معكم في الرأى فقط لا غير؟

حاولت تهدئته واستيضاح موقفه حتى يمكنني الرد فما كان منه إلا أن قال:  ليل نهار تهاجمون القرضاوي الذي كان في وقت من الوقت ملء السمع والبصر وكانت كلمته تحرك الشارع ليس في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله ونشرت له كتبه أكبر دور النشر المصرية والعربية. لقد كان القرضاوي «حلوا» عندما كان يقول ما تريدون وتحول الآن لشر محض عندما خالف ما تريدون منه قوله.. استضفتموه في مناسبات عديدة وأعطيتم له الجوائر لتصوركم أنه سيكون طوع بنانكم ولكن بمجرد أن ظهر حر الإرادة ألصقتم به عيوب الدنيا!
رغم ما بدا لي من صحة حديثه بشأن المكانة التي كان عليها القرضاوي،  فإنني لم أجد مبررا لكل حدته، ورأيت أنه إذا كان يعيب علينا أو علىّ ما يراه من محدودية الإيمان بحرية الفكر فإنه لم يسلم من التهمة.. فكلامه يبدو حجرا على حرية فكري وفكر الآخرين في النظر للقرضاوي وفق الرؤية التي تعبر عن فهمنا لمواقفه.
حاولت أن أشرح له مآخذي أنا على الأقل على مواقف القرضاوي في المرحلة الأخيرة من عمره والتي هبطت به من علياء الفكر والفقه إلى درك السياسة. رحت أحاول الإيضاح له بأبسط المعاني أن القرضاوي لو انطلق من رؤية فقهية – وهو الضليع في أسسها وليس من رؤية سياسية – لتغير موقفه مما حدث في مصر بعد 30 يونيو بغض النظر عن موقفنا مما حدث بالتأييد أم بالمعارضة. رحت أذكر له عبارات مثل «درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة».. واستدعيت له الجدل الكلاسيكي في الفقه والفكر الإسلامي حول عدم جواز الخروج على الحاكم.. ذكرته بمواقف ابن تيمية الذي يستند إليه من يتم دمغهم بالمتشددين في التأكيد على هذا الجانب تحذيراً من شق صف الأمة.
أسعفتني الذاكرة بمجموعة من المواقف التي لا يمكن فيها تبرير مواقف القرضاوي فذكرتها له.. منها وصف الجيش الإسرائيلي بأنه أكثر رحمة من الجيش المصري، وأن الرسول لو كان حياً لقاتل في صفوف الناتو في سوريا.. وأن.. وأن.. مما يثير التساؤلات حول أبعاد مواقف الرجل وما إذا كانت تنطلق من إرادة مختطفة لصالح جهة ما أم أنها تعبر عن حر عقله وتفكيره؟
بدا لي محدثي وكأنه أغلق عقله وأنه ليس لديه الاستعداد لأي نقاش... غير أنه فاجأني بما بدا لي تغيير الموضوع متسائلاً: ما رأيك في محمد عبده.. الشيخ وليس المطرب؟ دون طول تفكير رحت أذكر له أنه رمز إسلامي جليل من رموز العصر الحديث ورائد التنوير والعقلانية.. وقد يرتقي إلى من يمكن أن يتم إدراجهم ضمن مجددي الدين الذين يشير البعض إلى حديث نبوي بشأنهم وأنهم يأتون على رأس كل مائة سنة. 
بدت ملامح الراحة على وجهه وراح يقول: حسناً قلت.. وبادرني بالتساؤل:

وماذا لو قلت لك إن عبده جرت محاولة تشويهه على غرار ما يجري مع القرضاوي؟ عندما وجد أن لسان حالي يقول له كيف؟ بدا كمن يمسك بالميكروفون وراح يمعن في ذكر ما جرى.
قال لي محدثي، إن «عبده» الذي وصفته بتلك الصفات الحسنة وتجعل منه شخصية فريدة في تاريخنا شنعت به الجرائد في حياته أشنع تشهير إما بإيعاز من خصومه أو مجاراة للعوام وأشباههم باسترضائهم لترويج جرائدهم. وكانت التهمة الرئيسية التي توجه له، حتى من الحزب الوطني وعلى رأسه مصطفى كامل المروق من الوطنية ومشايعة الإنجليز واتخاذهم أعواناً وكان مما يساق في معرض التدليل على ذلك أنه عاد من منفاه من بيروت بعفو صدر بناء على ضغط بريطاني جاء من اللورد كرومر، وهو ما جعل البعض يغمز ويلمز من قناة الشيخ ويتهمه بالعمالة للإنجليز.. وقد جاء جانب من ذلك لأن الشيخ عبده - حسب محدثي – ناهض دعاة الحركة الوطنية ورماهم بالتهور، ووصلت الحيرة بشأن مواقفه حد أن الخديو الذي كان عبده يكن عداء شديدا له راح يصفه بأنه «ممن يخلطون الشغب بالعلم ومسائل الشخصيات بالدين ويكثرون من أسباب القلاقل».
حينما أبديت دهشتي طلب مني محدثي العودة لسيرة عبده للتيقن من صحة ما ذكره مشيراً بشكل أساسي إلى كتاب لأحمد أمين بعنوان «من زعماء الإصلاح». حين صمتت لفترة تفكيراً فيما قال.. تصور محدثي أنه أتى علىّ بالضربة القاضية فلم أنتبه سوى لتساؤله: هل ترى فرقاً كبيراً بين ما جرى مع عبده وما يجري مع القرضاوي؟ أليست التهم نفسها تتكرر مع قامة فكرية أثبت التاريخ أنها كذلك مع عبده وسيثبت الأمر ذاته مع القرضاوي؟
لم أبد قبولا.. فشتان بين الرجلين.. صحيح أن هناك تقاطعاً في بعض المواقف ولكن السياق يختلف.. رحت أذكر محدثي بموقف عبده القائم على عدم حب السياسة بل ولعنها هي ومشتقاتها في محاولة للتأكيد على أنها «وحل» كان يجب على الاثنين – القرضاوي وعبده – أن يبتعدا عنه.. استنكر محدثي كلامي متسائلا: ألم تسمع عن مفصوم «المثقف العضوي» لجرامشي؟ فغرت فاهي.. ولم أقو سوى على تركه والرحيل في صمت!.
[email protected]