رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

رحل البابا شنودة الثالث

رحل البابا شنودة الثالث ،.. ورحل معه صوت كبير للحكمة والعقل
لم يكن البابا شنودة الثالث الذى وافته المنية ظهر أمس السبت مجرد زعيم روحى لأقباط مصر جلس على كرسى بابوية الكنيسة الأورثوذكسية المرقسية المصرية لأكثر من أربعين عاما ، وإنما كان حالة خاصة وفريدة من بين كل باباوات الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، ولقد تابعت منذ سنوات الصبا مسيرته منذ أن إعتلى كرسى البابوية فى عام 1971، وكانت حياته الطويلة حافلة بكل عناصر الدراما والأحداث والأخبار، وكثيرا ما كان هو نفسه صانعا للأخبار ومانشيتات الصحف وعناوين الأخبار .

كان البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية بحق رجلا جامعا لخصال الخير والمحبة، .. رجلا قد هذبته الآداب وأحكمته تجارب الحياة،.. كان زعيما روحيا ومع ذلك لم تكن تخلو أحاديثه من روح الدعابة والمرح، وأظهر لنا فيها بكل وضوح سعة أفق ومعرفة وإطلاع وقراءة حتى للقرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة ، والتى كثيرا ما كان يستشهد بها فى أحاديثه الصحفية والتليفزيونية بأسلوب عقلانى حكيم يضرب به المثل عن تواضع العلماء وجواب الحكماء ، لكن قبل كل شىء كان البابا شنودة الثالث رجلا مصريا وطنيا حتى النخاع ، ورغم إنفتاحه وإلمامه بما يحدث فى العالم كانت مصر دائما نصب عينيه يراها بمنظور تاريخى شامل ،.. كان عشقه لمصر وحرصه على وحدتها الوطنية هى مفتاح شخصيته ، وكانت شخصيته المتميزة والمتعددة المواهب والقدرات هى التى أضافت الكثير إلى المنصب الكبير المهيب الذى كان يتقلده وليس العكس ،..لقد كانت شخصيته من طراز حقا فريد فى نوعه.

لقد كان نظير جيد روفائيل أو البابا شنودة الثالث دارسا للتاريخ الفرعونى والمسيحى والإسلامى  وتاريخ مصر المعاصر، ثم دارسا للاهوت فى الكلية الإكليركية ثم مدرسا فى الكلية، ثم مدرسا للغة الإنجليزية ثم ضابطا فى الجيش المصرى فى أواخرالأربعينيات من القرن الماضى، ثم مشتغلا بالصحافة ومهتما بالسياسة أكثر من أى بابا آخر، وكان عضوا بنقابة الصحفيين منذ عام 1965 وحتى وافته المنية ، وهذه كلها توليفة قلما تجتمع فى شخص واحد، وكانت آراؤه السياسية مثيرة للجدل والنقاش، اتفق معها أو أختلف لكنك لا تستطيع أن تتجاهلها، وفى رأيى الشخصى أن أكبر التحديات التى واجهته كانت  محاولتة التوفيق بين معتقداته وإلتزاماته الدينية كرأس للكنيسة المصرية من ناحية وبين آراءه السياسية وكفاحه للحصول على حقوق الأقباط من ناحية أخرى،.. كانت فى الواقع معادلة صعبة بكل المقاييس أن يدافع ويناضل من أجل حقوق الأقباط دون أن يظهر أنه يغلب حقوق الأقباط على المصالح الوطنية العليا، غير أنه إستطاع بحرفنة وإقتدار أن يجتاز الكثير من حقول الألغام الدينية والسياسية، وفى رأيى أن أهم ثلاثة مواقف سياسية وطنية تحسب له هى :

- حرصه على الوحدة الوطنية ورفضه لكل محاولات التدخل الأجنبى فى شئون مصر وزرع بذور الفتنة الطائفية.
- مناصرته للقضية الفلسطينية والحقوق العادلة للشعب الفلسطينى فى الداخل والخارج
- رفضه السفر مع الرئيس السادات إلى القدس فى 19 نوفمبر 1977، ولمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فى 26 مارس 1979 ، ولكل محاولات التطبيع مع إسرائيل، وأيضا قراره الخطير الجرىء بتحريم سفر الأقباط المصريين للحج إلى القدس والأراضى الفلسطينية المحتلة ، طالما ظلت قابعة تحت نير الإحتلال الإسرائيلى، وكان يرد على الرسائل التي يتلقاها من قبل أقباط يريدون السفر إلي القدس دون تعرضهم لعقوبة كنسية بقوله :

" إن سفر الأقباط إلي القدس سيعني بالنسبة للمسلمين أنهم خونة لمصر ويريدون التطبيع مع إسرائيل، وأن أقباط مصر وحدهم سارعوا بالسفر إلي إسرائيل رغم المقاطعات الشعبية الواسعة من قبل

طوائف الإسلام في مصر "..

لقد كانت مواقف البابا شنودة الثالث الوطنية مثار إعجاب ملايين المصريين من الأقباط والمسلمين، بل أننى أزعم أن شعبية البابا شنودة بين  الأغلبية الصامتة المسلمة المعتدلة ربما فاقت شعبيته كما عن شعبيته بين الأقباط ، لأن كثيرا من المسلمين الذين إنتقدوا قراراته السياسية وقت صدامه مع الرئيس السادات سرعان ما اكتشفوا بعد سنوات قليلة أن البابا كان على حق فى مواقفه السياسية وأنه كان يتمتع ببعد نظر سياسى ، وبالفعل كان البابا شنودة رجلا سياسيا يفهم فى السياسة ودروبها ودهاليزها،.. كان يعرف متى يتكلم ومتى يصمت، ومتى يعتكف فى الدير ، كان يعرف كيف يحتج وكيف يناور ومتى يظهر مواقف التحدى، .. لكنه أيضا كانت له بعض سقطاته السياسية وأكبرها كانت تأييده لمبارك ومشروع التوريث فى السنوات الأخيرة التى سبقت ثورة 25 يناير 2011، ومناشدته الأقباط تأييد فصيل معين فى آخر إنتخابات برلمانية فى عهد مبارك وهو الأمر الذى كان محل إستياء عدد كبير من الأقباط، وربما كان للبابا عذره ومبرراته، لكن هذه هى السياسة وحساباتها التى لا يمكن أن تكون مضمونة النجاح على الدوام ، فكثيرا ما يحدث القانون السياسى الأزلى – قانون " النتائج العكسية" أو إنقلاب السحر على الساحر مفعوله حتى على أكثر السياسيين دهاءا وحنكة، ومع أغلب الدول حتى القوى العظمى، لكن للأمانة والإنصاف لقد تعلم البابا شنودة الدرس وناشد أقباط مصر فى الإنتخابات البرلمانية الأخيرة أن ينتخبوا المرشح الأصلح بغض النظر عن ديانته.

لقد توفى البابا شنودة الثالث، لكن ستظل أشهر كلماته على الإطلاق باقية أبد الدهر :
" إن مصر ليست وطنا نعيش فيه، وإنما هى وطن يعيش فينا "

وكانت وفاته مصدر حزن عميق لملايين الأقباط والمسلمين المصريين فى الداخل والخارج، لذا فإن العزاء والمواساه يجب أن تكون لكل المصريين وليس للأقباط فقط ، ثم إن كلمة " قبطى " تعنى فى النهاية كلمة مصرى، والبقاء لله.

إن أكثر ما سيفتقده المصريون فى أحاديث البابا شنوده الثالث الصحفية والتليفزيونية هى العقلانية والحكمة، فقد كان يتحدث كرجل دين ومفكر وفيلسوف وسياسى فى آن واحد، ومع رحيله رحل عنا أيضا صوت كبير ومؤثر للحكمة والعقل فى وقت تعانى فيه مصر ومنذ سنوات طويلة من سياسات التغييب العقلى، وهذه وحدها خسارة كبيرة لمصر والمصريين .

- - - - -
كاتب صحفى مصرى-كندى
[email protected]