عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات ورؤى فى المشهد السياسى المصرى

هذا ليس مقالا صحفيا وإنما خواطر وحديث ذو شجون، لا مجال فيه للعواطف أو المجاملات ، وأعتذر مقدما عن الإطالة، فمصر فعلا فى خطر داهم ربما أكبر مما نتصور، ..  خطر يفرض علينا جميعا أن نفكر بصوت عال ودون خوف، فكلنا شئنا أم أبينا فى مركب واحد.

بداية  أود أن أشكر كل الأصدقاء والقراء الأعزاء الذين أرسلوا لى رسائل هاتفية " وإيميلات " أعربوا فيها عن قلقهم بسبب إنقطاعى عن الكتابة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية ، وأود أن أطمئنهم جميعا أننى بخير، فلم يقبض على ولم يطلق أحد على النار من الخلف ، ..كل ما فى الأمر أن ظروفا عائلية وخاصة طارئة وقاهرة أضطرتنى للإنقطاع عن الكتابة.. ورغم إنشغالى القسرى أتابع ما يحدث فى إستياء وحزن ، ولعل حزنى الأكبر هو على الضرر الجسيم الذى لحق فى الداخل والخارج بسمعة المؤسسة العسكرية المصرية والتى أراها الضحية الأولى بعد الشهداء الأبرار لكل ما جرى ويجرى من أحداث عنف ومصادمات، .. رأسى ملىء بالأفكار ولدى تفسيرات لكثير مما جرى ويجرى من أحداث لكن لا أخفى عليكم أن المشهد العبثى وغياب ثقافة الحوار البناء وإنقسام المصريين إلى مع أو ضد تقريبا فى كل شىء على الرغم من الإفتقار والإفتقاد الواضح للمعلومات الصحيحة كلها لا تشجع على الكتابة، ناهيك عن أن كل ما نكتبه جميعا لا جدوى منه، فنحن جميعا نؤذن فى مالطة!.. نحن نكتب ما نشاء والنظام يفعل ما يشاء! .. السيادة الآن أصبحت لأصحاب الصراخ والعويل وقوى الجهل والتعصب والهوس الدينى ، ولطلقات الرصاص الحى وليس لأصوات العقل والحق والحكمة! .

فى الواقع إن كل قواميس اللغات لا توجد بها مفردات وكلمات يمكنها أن تعبر عن مدى حزنى على كل ما يحدث فى مصر،..أشعر أن كم الحزن والغضب فى داخلى هو طاقة بركانية مدمرة، غير أننى أبذل مجهودا خارقا كى أحول هذه الطاقة إلى طاقة إيجابية فى محاولة  فردية جادة ومخلصة لإيجاد حل للخروج من المأزق الخطير الذى نتعرض له جميعا، لأن الحلول التقليدية لم تعد مجدية بل أجدها تجعل الأمور أكثر تعقيدا.

أعترف للقارىء العزيز أننى أقف مشدوها أمام هذا الكم من الخبل والعبث الذى يحدث فى مصر؟!! ..

أكاد لا أصدق أن  خلاصة القوة الضاربة للجيش المصرى من القوات الخاصة ، من فرق الصاعقة والمظلات فى قلب ميدان التحرير وشوارع مجلس الوزراء والقصر العينى والشيخ ريحان!!.. لماذا يا جنرالات المجلس الموقر؟،..  هل هبطت الفرقة 82 الأمريكية المحمولة جوا على منطقة وسط البلد فجأة ودون أن ندرى؟!! .. وهل خلت مصر من قوات الأمن المركزى التى يزيد عددها على المليون جندى وضابط  حتى يتم إنزال القوات الخاصة للجيش إلى شوارع وسط القاهرة؟! .. إن الجيوش القوية تستعرض قوتها وقواتها إما فى عروض عسكرية أو فى ميادين القتال وليس فى ميدان التحرير ، أو ضد مدنيين من الرجال والنساء .،.. إن المسئول عن هذا القرار يجب أن يقدم إلى محاكمة عسكرية فورا بتهمة إهانة الجيش المصرى والشعب المصرى وسمعة مصر فى العالم . رحم الله جنرالات مصر العظام : عبد المنعم رياض، سعد الدين الشاذلى وأحمد إسماعيل وعبد الغنى الجمسى والمشير أبو غزالة، وغيرهم! .
إننى لازلت أشعر بالصدمة والذهول من مشاهد إعتداء بعض أفراد الجيش على بعض الرجال والنساء والفتيات!،.. يا إلهى .. ما كل هذا الغل والكراهية التى رأيناها جميعا وهم يضربون هؤلاء المواطنين العزل من السلاح؟! هذا ليس سلوك الجيش المصرى حتى مع الأعداء فى جبهة القتال،.. إن الجنود والضباط الإسرائيليين الذين تم أسرهم فى حرب أكتوبر 1973  جميعهم أشادوا بحسن معاملة المصريين لهم فما هذه المشاهد المروعة التى رأيناها؟ ،.. إننى لا أريد أن أنفى أو أؤكد صحة هذه المشاهد، ولكنى فقط أطرح سؤالين : كيف يمكن أن يحدث هذا على الرغم من أن أحد المصادر العسكرية التى أثق فيها قد أكد لى أن المشير محمد حسين طنطاوى رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة كان قد أصدر منذ نحو ستة أسابيع منشورا تم تعميمه على كل أفراد الجيش بعدم الإحتكاك بالمتظاهرين المدنيين أو إطلاق الرصاص عليهم فمن الذى خالف هذا الأمر العسكرى ؟ والسؤال الثانى  هو كيف كان أحد الجنود أو الضباط الذين إشتركوا فى ضرب الفتاة التى تم تعرية جسدها يرتدى " حذاء كوتشى" بدلا من البيادة العسكرية؟!! هذا أمر مستحيل أن يفعله ضابط أو جندى فى القوات المسلحة فى مثل هذا المكان والظروف التى وقعت فيها الحادثة،.. من حقنا أن نسأل : هل إندس نفر من العملاء الغرباء أو البلطجية بين صفوف أفراد الجيش ووسط الإضطرابات وهم يرتدون زى أفراد القوات المسلحة والذى يباع على الأرصفة خلف محطة سكك حديد مصر فى القاهرة بهدف تشويه سمعة الجيش المصرى وإحداث الفتنة والوقيعة بين الجيش والشعب؟!! هذه الجزئية يجب أن تكون موضع إهتمام وتحقيق أجهزة الأمن المعنية فى الجيش قبل أجهزة الشرطة.
منذ الحادى عشر من فيراير الماضى والمجلس العسكرى الحاكم يمتلك كل مقاليد السلطة المادية فى مصر، ونحن لا نعرف كيف تتخذ القرارات الهامة المصيرية، .. لا نعرف من الذى أقترح ومن الذى بادر؟، من الذى أيد ومن الذى عارض ؟ ،.. لا نعرف كيف يصدر أحد أعضاء المجلس تصريحات خطيرة تتعلق بالمستقبل السياسى فى مصر لمجموعة من المراسلين الأجانب ثم فى صبيحة اليوم التالى يأتى عضو آخر لينفى تصريحات زميله برمتها ؟!! زهقنا  يا سادة من بالونات إختبار المجلس، .. كيف غاب عن السيد المشير وأعضاء المجلس العسكرى بديهية تعيين " متحدث عسكرى " – صوت واحد يتحدث بإسم المجلس بدلا من هذا التخبط المشين، والبيانات العسكرية التى لا تغنى ولا تسمن من جوع ؟، .. إن وظيفة " متحدث رسمى " وظيفة فى غاية الأهمية، وكان قد شرح لى أبعادها وخلفياتها ذات يوم الصديق وأستاذى الراحل – رغم فارق السن بيننا - السفير تحسين بشير– سفير مصر السابق فى كندا، والذى كان رحمه الله أول من شغل منصب متحدث رسمى للرئيس جمال عبد الناصر والحكومة المصرية فى عام 1969، والذى عينه الرئيس السادات متحدثا رسميا أيضا أثناء حرب أكتوبر المجيدة ،.. يحدث هذا التخبط لأن جنرالات المجلس يمارسون السلطة السياسية داخل الغرف المغلقة!، وممارسة السلطة داخل الغرف المغلقة تحت مزاعم حماية الأمن القومى هو خطر مزدوج،  ومصر الآن تتعرض لأخطار داخلية وخارجية مزدوجة ، ولعل قضية الإنفلات الأمنى وأعمال البلطجة والعنف فى الشارع المصرى هى الخطر الأكبر والقضية الأولى التى تقلق وتشغل بال المصريين منذ أحداث يناير الماضى.

أعتقد أنه من حقنا كمصريين أن نعرف من هو ذلك " السوبرمان" المصرى الذى منع ظهور البلطجية فى القطر المصرى كله أثناء إجراء المرحلة الأولى من الإنتخابات البرلمانية؟! ، ولماذا لم يتم القبض على البلطجية الذين أحرقوا المجمع العلمى الذى يحتوى على أهم وثائق وخرائط الدولة المصرية؟ أين كانت أجهزة الأمن والمخابرات والمطافىء؟ ،.. لماذا لم تحرك ساكنا لمنع الحريق رغم تواجدها القريب من المبنى ؟

إن حرق المجمع العلمى المصرى هو جريمة شنعاء بكل المقاييس، لكن الجريمة الأشنع منها فى رأيى هى ترك هذا المبنى العريق بلا تأمين أو حراسة حتى يحترق.
إننا لا نريد أعذارا ولا إعتذارات ،.. لا من الحكومة ولا من المجلس العسكرى، وإنما نريد منهم الأفعال لا الأقوال، .. لقد حدثت منذ فبراير الماضى سلسلة من الجرائم مكتملة الأركان، ..نريد أن يتم القبض على الجناة والمجرمين والخونة والعملاء سواء كانوا أجانب أو محليين محسوبين علينا من المصريين،..  نريد تحقيقات وأدلة ومحاكمات وأحكاما رادعة، وقبل كل شىء نريد الشفافية والمكاشفة والمصارحة وتطبيق القانون على كل من تسول له نفسه أن يتلاعب بالأمن القومى المصرى والذى يجب أن يكون فى مقدمة أولوياته أمن وكرامة المواطن المصرى ونساء وفتيات مصر، وكفانا عبثا ولهوا ومزايدات فارغة كاذبة بإسم حب الوطن والوطنية، فهما ليسا حكرا على أحد بعينه أو جماعة من المصريين دون غيرها.

بعد ثورة 25 يناير، لازالت توجد فى مصر نوعية طفيلية من البشر ترقص على كل الحبال، تقبل كل الأيادى، تجلس على كل الموائد، تركب المرسيدس والثورة، وتريد إحتكار الثروة وإحتقار باقى المصريين،  طبقة تظهر كثيرا على التليفزيون،تصدع أدمغتنا بالحديث عن الوطنية والإنتماء، مرتدية  ثوب الفضيلة لتعظ وتمنح صكوك الوطنية والغفران للشعب الغلبان، .. طبقة من الجهلاء المنافقين فى الإعلام المصرى بلغ نفاقهم حدا من الإشمئزاز يجعل النفاق نفسه يتبرأ منهم!.

قبل أن نختار رئيس مصر القادم وقبل أن نطالب بالديمقراطية فإنه يتعين على كل مصرى أن يستلهم فى داخله وأعماقه " روح سبارتاكوس" كى يحرر نفسه من ثقافة العبيد ، ومن تأثير كتائب المنافقين فى السياسة والإعلام ،.. لا فرق بين منافق ليبرالى أو إخوانى أو سلفى أو ثورجى أو حنجورى . إن المنافقين كلهم سواء، ومهما فعلت قوى التطرف والهوس الدينى وغلاة الحنابلة من الوهابيين فلن ينتصر الظلام على النور إلا إذا إنقطع تيار الكهرباء والتنوير عن العقل المصرى.

يا سادة يا كرام نحن نعيش فى القرن الحادى والعشرين، فمتى نخرج كعرب من قوانين الغابة إلى قوانين الإنسانية والتى هى فى الحقيقة قوانين الإسلام وكل الأديان والرسالات السماوية، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!،.. عندما يغيب سلطان العقل فى بلد ما يصبح كل ما يحدث من عبث وفوضى فى هذا البلد أمرا معقولا، .. وتصبح أعظم ثورة شعبية مصرية ألهمت شعوب كثيرة فى العالم ثورة ناقصة ، وأشبه  ما تكون بصاروخ " كروز" عابر للقارات لكنه صاروخ بلا جهاز توجيه،..  أصاب رأس النظام وأخطأ الهدف الحقيقى – النظام الفاسد الذى يفرخ لنا الرؤس الفاسدة،.. إن المشكلة ليست فى القطار وإنما فى سائق القطار الذى يسير به فى بطء شديد على خط سريع، ويريد من المصريين أن يقوموا بعد " الفلنكات !!. وكلنا نعلم أن سائق القطار هو المجلس العسكرى الذى يقف خلف عجلة القيادة، ويدير شئون البلاد، وهو يديرها بإتباع نفس أساليب الرئيس المخلوع والنظام البائد لأن أعضاء المجلس فى الحقيقة لا يعرفون غيرها، ولذا فهم فى الواقع الذين يحتاجون إلى يد العون والمساعدة لأن السلطة مسكرة ومفسدة والحمل ثقيل.

إننى بعد بحث وتفكير اكتشفت أن النظام الحاكم وأولى الأمر فى بلدنا – مدنيين وعسكريين -  أناس يتمتعون بحكمة وبعد نظر، ويفهمون فى السياسة وشئون الحكم والعقد الإجتماعى والحرية والديمقراطية والدستور والعدل الإجتماعى أكثر من أرسطو وميكيافيللى  وجون لوك وجان جاك روسو وفولتير وتوماس جيفرسون ، وأنهم يعرفون أن شعبنا يعانى من وطأة الجوع والحرمان ويحتاج أكثر إلى العيش والأرز والمكرونة والشاى والسكر والزيت وأنابيب البوتاجاز ، وأن  قيم الكرامة والحرية والديمقراطية والعدل الإجتماعى وحقوق الإنسان كلها من الكماليات، لأنها لو كانت من الضروريات لكانوا أضافوها على " بطاقات التموين "!...  لا ياسادة قيم الكرامة والحرية والديمقراطية والعدل كلها من الضروريات وكما أعلن الدكتور الجنزورى رئيس الوزراء أنه بكى عندما سمع مواطن مصرى فقير يقول إن الأمن لديه أصبح أهم من رغيف العيش. إنها قيم من صميم ديننا الحنيف وكل الأديان السماوية.

وإذا كان أعضاء المجلس العسكرى الحاكم يتصورون أنهم بمقدورهم  خرق كافة القوانين والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والتى وقعت عليها الحكومة المصرية، نظرا لأنهم يتمتعون بحماية وتأييد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فيجب أن يعلم جنرالات المجلس أن هذه الحماية الأمريكية لن تنفعهم،  ذلك لأن عددا من القادة والزعماء الأمريكيين والإسرائيليين أنفسهم لا يستطيعون زيارة بعض العواصم الأوروبية خوفا من إعتقالهم والقبض عليهم بتهمة إرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بعد توجيه الإتهام لهم من قبل منظمات ومراكز حقوقية دولية،.. ومن بين هؤلاء القادة على سبيل المثال الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش وإيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلى الحالى.

نعم عندما يغيب سلطان العقل فى بلد ما يصبح كل ما يحدث من عبث وفوضى فى هذا البلد أمرا معقولا، ويستطيع لواء طيار متقاعد لا أعرف له وظيفة رسمية هو عبد المنعم كاطو أن يتحدث بكل حرية فى وسائل الإعلام عن وضع بعض أطفال مصر فى  " أفران هتلر للغاز " !!! ، ..  لو أن سيادته كان فى كندا وأدلى بمثل هذا التصريح علنا لقامت السلطات الكندية بإلقاء القبض عليه وترحيله

فورا خارج البلاد، ولصبت كافة المنظمات اليهودية والمدنية فى كندا جام غضبها عليه، ولو كان يحمل الجنسية الكندية لتمت محاكمته والزج به فى السجن فهذا هو القانون فى كندا حيث توجد قوانين تعاقب بالحبس كل من يحض على الكراهية أو العنصرية أو ينتهك حقوق الأطفال، حتى ولو كانوا  " أطفال شوارع " فهذا ليس ذنبهم، فهم أولا وقبل كل شىء ضحايا المجتمع المصرى والدولة المصرية ، هل يعلم سيادته أن القانون الكندى يحظر على جميع وسائل الإعلام والصحف الكندية نشر إسم أو صورة أى طفل أو صبى لم يبلغ بعد سن الرشد ، متهم بإرتكاب أى جريمة حتى ولو كانت جريمة قتل؟ . هذه حقيقة لمن لا يعلمها.

ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد أتحفنا لواء طيار آخر هو الملحق الجوى فى العاصمة الأمريكية واشنطن بتصريح مؤداه أن اللواء متقاعد عبد المنعم كاطو لا يمثل المجلس العسكرى ولا يتحدث بإسمه، وإنما هو يعبر عن رأيه كمواطن مصرى!!. وأنا بدورى أنبه سيادة الملحق الجوى الذى يعيش فى واشنطن، والسيد عبد المنعم كاطو، وكل قادة المجلس العسكرى إن حرية التعبير فى المجتمعات الغربية الديمقراطية تكفلها الدساتير والقوانين فى هذه البلدان، لكنها ليست حرية مطلقة وكما يتوهم البعض، فمن حقك أن تعبر عن آرائك دون خوف من العقوبة، ولكن فى ذات الوقت توجد قوانين ضد التعبيرات الكاذبة أو التصريحات التى قد تسىء إلى شخص آخر، كما أقول لإخوانى المصريين كافة بإعتبارى أحد أبناء هذا البلد الطيب، شاءت لى الأقدار أن أعيش أكثر من نصف حياتى خارج مصر فى دول أوربية وغربية عديدة ، ودون أن أفقد التواصل أو الإهتمام بالشأن المصرى العام والحرص على مصلحة مصر التى تستحق مكانة أرفع وأكبر بكثير مما هى عليه – أقول مخلصا :

فى كل المجتمعات الديمقراطية العريقة سواء فى الغرب أو فى الهند فإن دساتير وقوانين تلك البلاد تكفل حق التظاهر والإضرابات والإعتصامات ضد أصحاب الأعمال والإدارات فى المصانع والشركات وحتى ضد الحكومة نفسها، لكن كل هذه الحقوق تنظمها القوانين،  فمثلا إذا أراد العاملون فى إحدى المؤسسات أو الشركات الكبرى تنظيم إضراب أو إعتصام ضد الإدارة فيجب أولا أن يتم هذا عن طريق دعوة الجمعية العمومية للنقابة أو إتحاد العمال إلى الإنعقاد وإجراء التصويت بخصوص القيام بإضراب عن العمل أو إعتصام، فإذا كانت نتيجة التصويت أغلبية صدر القرار بالإعتصام أو الإضراب عن العمل، عندئذ لا يستطيع أحد المعتصمين أن يعترض طريق أحد الموظفين أو العمال الذين صوتوا ضد الإعتصام لمنعه من الذهاب إلى عمله لأنه سيدخل ولو فى حماية قوات البوليس ، كما أنه ليس من حق المعتصمين أن يشغلوا الطريق الرئيسى أمام المبنى أو أن يعيقوا حركة المرور للمارة أو السيارات، وإذا حدث أى لجوء إلى العنف وخرق القانون فإن من حق البوليس أن يتدخل على الفور لإعادة النظام والقبض على المخالفين، وهنا تستخدم قوات البوليس كل الوسائل المتاحة لها طبقا للقوانين السائدة، وإذا ما حدث تجاوز أو إفراط فى إستخدام القوة من جانب بعض أفراد الشرطة، بالمخالفة للقانون فإنه يتم توقيع العقوبات عليهم أيضا وفقا لنصوص القانون،.. لا أحد فوق القانون، فكل مواطن يعرف ما له وما لديه، يعرف واجباته كما يعرف حقوقه، والحرية ليست مطلقة وهى لا تعنى حرية السب والبذاءة  والمساس بحقوق الآخرين، كما أن الديمقراطية فى تلك المجتمعات لها أنياب شرسة فتاكة، وكثيرا ما يعلن قادة وزعماء وحكماء دول الغرب أن الديمقراطية ليست نظاما مثاليا كاملا يخلو من العيوب والنواقص، لكنها تعد أفضل النظم المتاحة لديهم، وبعد أن جربوا كافة النظم الأخرى من قمع وإستبداد وسيطرة الكنيسة الكاثوليكية فى العصور الوسطى فى أوروبا.

أما عندنا فى مصر فحدث ولا حرج، فنحن فى سنة أولى ديمقراطية، ولازلنا نحمل على أكتافنا موروثا ثقيلا وطويلا من الإستبداد وقمع الحريات وإنتهاكات حقوق الإنسان،  كما أن مفهوم المواطنة  وثقافة إحترام القانون ودولة القانون التى نتشدق بها بالكلام والخطب غائبة ولا وجود لها أرض الواقع، فنحن أصلا لا نحترم القانون لأننا نطبقه بطريقة إنتقائية،  كما أننا لا نحترم الدستور ولا حتى إشارات المرور!!، وإنما نكتفى بصب اللعنات ليلا ونهارا على دول الغرب العلمانية " الكافرة " على الرغم من أننا نستورد منها تقريبا معظم طعامنا وضرورياتنا وكمالياتنا! .

بالله عليكم إذا كانت العلمانية كفرا وإلحادا وضد الدين كما يدعى شيوخ التطرف وأصحاب فقه البداوة الصحراوى الذين غزوا مصر خلال العقود الثلاثة الماضية فكيف أن بلدا مثل الولايات المتحدة الأمريكية - قلعة الرأسمالية ومعقل العلمانية فى العالم - بها أكثر من خمسة آلاف مسجدا فى مختلف الولايات والمدن الأمريكية؟! ، وكيف أن حرية العبادة لجميع أصحاب الديانات ومنهم المسلمين مكفولة ومصانة بحكم الدستور الأمريكى والقانون ، ويمارس المسلمون هناك شعائرهم ربما بحرية أكثر بكثير من الحرية المتاحة فى أى بلد عربى بما فى ذلك مصر؟!

المتطرفون وأصحاب العقول الخاوية والمغيبة  طبعا لن يردوا على هذه الجزئية بجزئية أخرى ولا على الحجة بالحجة لأنهم لا يعرفون ثقافة الحوار الموضوعى البناء ولايجيدون إلا حوار الطرشان، وسوف يمطروننا بردودهم المعتادة مثل : وماذا عن الغزو الأمريكى للعراق، وفضائح التعذيب فى سجن " أبو غريب" ؟، لكن لن يسألوا أنفسهم كيف تم الغزو الأمريكى على العراق ، والذى ما كان له أن يتم دون مساعدة دول الخليج التى إنطلقت الطائرات الأمريكية من مطاراتها الحربية والقواعد العسكرية الموجودة فى الخليج لتقصف العراق!،.. كما أنهم لن يسألوا أنفسهم كيف عرفوا أصلا بفضيحة سجن أبو غريب؟ هل عرفوا بها من الإعلام العربى ؟! طبعا هم لا يعرفون أن العالم كله قد عرف بهذه الفضيحة لأن " جندى أمريكى من أصحاب الضمائر الحية هو الذى التقط صور التعذيب المشينة بكاميرا ديجيتال صغيرة من داخل السجن وأرسل بها إلى إحدى شبكات التليفزيون الأمريكية.

إن قوة الجهل المتفشى فى مصر - الجهل بمفهومه الواسع وليس فقط جهل الأمية - تفوق قوة الجيش المصرى الذى نجح فى إستقطاب هذه القوة لصالحه،  فأصبح العقلاء الشرفاء فى مصر يحاربون معارك غير متكافئة على عدة جبهات ، .. فى يوم واحد يقتل شيخ أزهرى جليل، ومهندس ، وطبيب شاب حديث التخرج، ثم يحدثنا النظام عن " البلطجية"!!

حقا عندما يغيب سلطان العقل فى بلد ما يصبح اللامعقول  أمرا معقولا، لكن اللامعقول الذى استعصى على فهمه هو تلك الدعوة الغريبة الشاذة على يد جماعة " الأناركية" من المصريين الذين يطلقون على أنفسهم حزب " الإشتراكيون الثوريون" ، والذين أعطتهم بعض أجهزة الإعلام المصرية والخليجية حجما أكبر من حجمهم فى الشارع السياسى المصرى، وتتلخص دعوة أفراد الحركة فى المطالبة  بإسقاط النظام والجيش والدولة المصرية!!!

إننى أستطيع أن أفهم الدعوة لإسقاط النظام، وهذا يحدث فى كل الديمقراطيات العريقة عن طريق تداول السلطة كل عدة سنوات ومن خلال العملية الديمقراطية ذاتها،  فيتبوأ الحزب المعارض مقاليد السلطة     والحكم ، وينتقل الحزب الحاكم إلى صفوف المعارضة الرسمية،  لكننى لم أسمع أبدا بأحد يطالب بإسقاط الدولة ذاتها إلا هنا فى مصر،.. هل يعرف حقا أصحاب هذه الدعوة ماذا يقولون؟! ،.. هل يعرفون الفرق بين إسقاط النظام وإسقاط الدولة؟ أتمنى أن يشرح لنا أصحاب هذه الدعوة الخطيرة ما الذى يقصدونه بإسقاط الدولة؟! لأن إسقاط الدولة لن يسفر عنه سوى ثلاث نتائج: أن تعم الفوضى، والعودة إلى شريعة الغابة، وإعطاء الذريعة للتدخل الأجنبى من جانب القوى العظمى لحماية مصالحها ورعاياها وحقوق الأقليات، وتكون المحصلة النهائية إعادة إحتلال سيناء، و " جود باى " قناة السويس، فهل هذا هو ما يريده أصحاب هذه الدعوة الجنونية الخطيرة؟!!!

إن ما يحدث فى مصر الآن هو صراع محتدم على السلطة ، وتضارب مصالح، وسوف يتصاعد هذا الصراع خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة، ومصر فى خطر داهم ولن يدرأ الخطر عن مصر ويخرجها من عثرتها الحالية إلا تلاحم وتكاتف كل أبناء مصر العقلاء الشرفاء.


‎-   يقول الرئيس الأمريكى الثالث توماس جيفرسون:

" أتمنى أن تكبر حكمتنا مع سلطتنا،..  أتمنى أن تعلمنا أنه كلما كان إستخدامنا للسلطة أقل كلما عظمت سلطتنا".

_ _ _ _ _ _ _

كاتب صحفى مصرى-كندى
[email protected]