ربنا موجود
تدفقوا من كل حدب وصوب ، من النجوع والقرى والمدن ، فى الصباح والبكور ، هرعوا الى مزاره حيث يرقد جثمان البابا شنوده ، فى دير وادى النطرون ، تدافعوا بالآلاف فسقط ثمانية من الأقباط ، أدى الزحام الغير مسبوق الى وفاتهم ، وإصابة العشرات بحلات إغماء واختناقات
رحل البابا تاركا فراغا رهيبا ، فالظروف القاسية التى تمر بها مصر بصفة عامة ، والأقباط بصفة خاصة ، خلقت لديهم جميعا الشعور باليتم ، الشعور الوحدة والخوف من المجهول ، الخوف على ماسوف تؤول اليه البلاد ، فى ظل التجنى على الأقباط ، فلم يمثلوا إلا تمثيلا شكليا لاوجود له ، سواء فى البرلمان أو فى اللجنة التأسيسية المختصة بوضع الدستور فاضطروا للإنسحاب منها ،
أحد المرشحين للرئاسة المحسوبين على التيار السلفى
قال فى إحدى مؤتمراته : مستحيل أن أعين قبطى نائبا لرئيس الجمهورية ، وكأنه يزف بشرى للمواطنين فهو لايؤمن بحق شركاء الوطن فى البذل والعطاء
ولم يكد يمر يوم إلّا وحدثت فتنة طائفية هنا أو هناك
التناحر وليس التنافس هو عنوان انتخابات الرئاسة ، خاصة بين التيارات الدينية ، التى تسعى لجنى الغنائم ، فمصالحها فوق الجميع
كان البابا شنوده ملجأ آمنا ، حينما يتعثر الطريق ن وتغلق الأبواب
وضع السادات المسمار الأول فى نعش الوحدة الوطنية بنفيه لقداسه البابا لرفضه التطبيع من الكيان الصهيونى، ولتلاها المخلوع لمدة ثلاثين عاما ، وقامت الثورة العظيمة ، فظننا أنها وأدت الفرقة
ثورة استطاعت أن تلم الشمل فى ميدان سقاه مينا ومحمد بالدم ، وماهى إلا أيام قليلة ، حتى عدنا الى نقطة الصفر، الغيوم تلبد سماءنا ،
هذالخوف منطقى و له مايبرره ، لدرجة أن عشرات الآلاف هاجروا ، أو يفكرون بجدية فى الرحيل ، ترتعد فرائصهم إذا حكم الإسلامييون وسارت مصر على خطى طالبان ، كل المؤشرات تلوح أننا نقترب من الخطر الحقيقى ، وخوفنا ليس على المستقبل ، بل على حضارتنا العريقة إذا اندثرت بفعل الجهل ، فمحونا التاريخ إرضاء للفكر المستورد الآتى من بلاد النفط ، تدعمه الريالات والدنانير
كان البابا شنوده يعوض كل مغبون ، لم يجد ضالته فى دولة تعيد الحقوق وتطبق القانون ، يحتوى المظلومين والتعساء ، كم سقطت دموعه دما على أبنائه فى نجع حمادى ، والقديسين يوم الميلاد ، وماسبيرو وأطفيح وامبابة والعمرانية
خفف على الأقباط أحزانهم ، طمأنهم أن هؤلاء شهداء فى السماء ، ليفرحوا ، وللحقيقة هم قتلوا برصاص مصريين تطرفت أفكارهم ، أوغرت فى صدورهم أن الطريق الى الجنة يستلزم
لم يكن البابا شنوده مجرد رمزدينى ووطنى كبير ، بل كان إنسانا محبا متواضعا حكيما حصيف للسان ، حينما يعظ الكل يستمع ويقتنع فيمتص الغضب
كان بعيد النظر يستشرف المستقبل فرفض الطبيع ، ودفع الثمن حينما نفاه السادات الى الدير عدة سنوات
الآن رحل عن الأقباط المعلم والمنقذ من الرياح التى أتت بما لاتشتهى السفن ، لم يستوعبوا أو يصدقوا أنهم فقدوا الحصن ، وعليهم أن يتقبلوا إرادة الله، فخرجوا بالالاف يحملون نعشه يبكون ويصرخون ، ومات عدد ليس بالقليل ، وسقط آخرون مغشى عليهم من شدة الحزن عند وداعه الى مثواه الأخير
وهاهم الآن يهرولون عند قبره يقبلونه ، يبكونه بالدمع والدم ، يتحاورون معه ، يستنجدون به ، يسألونه تركتنا وحدنا ، نحتاجك فالغد أسود مظلما ، تهدّم الجدار وسقط السقف على رؤوسنا ، بركان غضب ياسيدنا ، يا من كنت الملاذ والسند
كل هذا الحب ، بل كل هذا الخوف ماجعلهم يسقطون قتلى بعد وفاته
الضباب يعكر صفو الأيام ، وكل مرشح يحاول أن يبث الإطمئنان فى قلوب الأقباط ، لكن الحقيقة أن الثقافة تبدلت ملامحها ، شعارها إقصاء الآخر فلا تعاون أو حوار ، رسالتهم أن الأقباط هم الأقلية ، وعليهم أن يفهمون أن مصر إسلامية إسلامية ، ويوم ما ليس بالبعيد الى الجزية نعود
الخوف والرعب على مستقبل لاتلوح نهاياته ،حديث الناس فى البيوت والهواتف
والى أن تتضح الأمور هاهم يرقدون حول المزار ، يذرفون الدمع ربما يسمع البابا عويلهم ، ربما يبعث برسالة من السماء تعيد الى قلوبهم الأمان المفقود
والحقيقة الوحيدة أن البابا رحل ولن يعود ، فلنأخذ كلمته نبراسا يقينا الهجير
ربنا موجود