رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

رسالة مـن مُعَلِّمِي الصغيـر

تسلمتُ رسالة عبر بريدي الإلكتروني باللغة الإنجليزية، "أعتقد أنها كُتبت بلغة أدبية راقية".. لم يعلم مُرسلها أن مَن أُرسلت إليه علاقته انتهت "تقريبًا" بتلك اللغة قبل عقدين من الزمن، ولا يعلم منها إلا النذر اليسير، ما يستطيع أن يسد به حاجته.. تأملتُ في الرسالة، متوقعًا مضمونها وما تحويه، إما بسبب معرفتي التَّامة بمُرسلها، وتوقعي بما يمكن أن يخبرني به، أو لأن بعض المفردات لم تغب عن ذاكرتي، لتكرار شيوع استخداماتها.

لجأتُ إلى محرك البحث وبرامج الترجمة لفهم نصِّ الرسالة، فوجدتها تحوي كلمات ومفردات لم أعتد أو أتوقع على الإطلاق سماعها منه، لظنّي أنها بعيدة عن إدراكه ومخيّلته، وهو الذي أتمّ عامه الثالث عشر قبل أيام.
كنت أعتقد أن جيلي ومن سبقه فقط، هم من يملكون الحقيقة وحدهم، فلم أكن أُعر أي انتباهة لهذا الفتى "المراهق"، أن تشغله بعض الأمور التي استعصت على الفهم والإدارك لأجيال سبقت، لم تستطع عبر عقود عاشتها أن تقترب منها أو تصل فيها إلى شيء ملموس. 
أخبرني في رسالته أننا "هو وأنا" مختلفَيْن في أمور كثيرة، معللًا بأن هناك موانع كثيرة في التفكير والأهداف والرؤى، لاختلاف الوسائل وأدوات العصر، وبأنني أنتمي إلى جيل لا يستطيع أن يحدد معالم مستقبله، جيل طغت عليه تبدّل قناعاته وتغيّر مفاهيمه، جيل قدره المحتوم الذي يستحقه هو أن يكون في تيه عصور القرون الوسطى.
وجَّه إليَّ وابلاً من طلقات أسئلته: "ماذا صنعتم، وماذا فعلتم، وإلى أي مدى تعتقدون أنكم ستصلون؟"، وأوضح أننا جيل، تربى على السمع والطاعة، لا يعرف سوى البكاء على أطلال الماضي السحيق، وأمجاد عصور زاهرة لم نصنعها بأيدينا، ولم يُحقق إلا الهزيمة والانكسار، باستثناء بعض شعاع عابر لم يستمر طويلًا!. 
أخبرني بأنه ينتمي إلى جيل العلم والمعرفة.. جيل الحوار وثقافة الاختلاف، جيل يعتمد على العقل ومنطق الأشياء، جيل تتعدد مواهبه وهواياته، جيل تخطى عامل الزمن، فعبر الحاضر بخطى واثقة نحو مستقبل تسوده قواسم مشتركة تجاوزت معاني الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الإنسانية، التي كانت أقصى أمانيكم ولم تحققوا واحدًا منها!.
أنهى رسالته "الصادمة" بأنهم جيل لا يعترف بالحدود الجغرافية أو الزمنية، جيل يؤمن بالإنسان وحقوقه وواجباته، جيل يؤمن بالقيم الأخلاقية السامية التي تتحقق قولاً وعملاً.. جيل ابتعد عن الشعارات البرَّاقة والخطب الرنَّانة والبطولات الزائفة، جيل لا يعرف معنى الخوف ولا يتوقف طموحه عند حدود الوهم الذي أدمنتموه حتى الثمالة.
ذُيِّلت الرسالة بعبارات وكلمات مقتضبة: "أبي.. أرجو أن تمتلك سعة صدر ومساحة من قبول الرأي الذي يُخالف ما تتوقعه منّي.. ستبقى أبي الذي أحبه وأحترمه..".
انتهت رسالته، وبدأتُ مع أفكاري، أتأمل محتوى الرسالة وما بين سطورها.. أصابتني الحيرة والدهشة والإعجاب في آنٍ واحد، أنَّى لهذا "المراهق" الذي لم يبلغ الحُلم بعد، أن تأتيه الجرأة والشجاعة في كل ما يطرحه، وكيف أَلَمَّ بما يتحدث عنه، ومتى كان له رأيٌ في ما يحيط به من أحداث، وهو الذي وُلد مع بداية الألفية

الثالثة؟!.
أرسلتُ إليه معاتبًا باللغة العربية التي أدَّعي أنني أتقنها، بأنني حزين لأنني أخطأت في حقه عندما أبهرتني فكرة إلحاقه بمدرسة أجنبية لم ترسّخ بداخله مفهوم انتمائه للغته الأم، ولأنه ادعى (كما ادّعيتُ قبله) أن الحقيقة يفهمها كاملة "رغم صغر سنه" برؤية تستوعب مفردات العصر الذي أعيشه أنا جسداً فقط، دون مواكبة عوالمه المختلفة.
قلت له: "من مفارقات الفكر، أن سلوك طريق واحدة فيه - لو كانت صحيحة - لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة، وهي مشكلة فلسفية قديمة أدت بكثير من الفلاسفة إلى القول بتعدد الحق؛ نظرًا لعجزهم عن تفسير اختلاف الآراء في القضية الواحدة، مع اتحاد منهج البحث فيها".
أوضحتُ له أن أول مقومات التوازن الفكري هو امتلاك التصورات الصحيحة عن كل قضية يُراد الحكم عليها سلبًا أو إيجابًا، وهذا التصور إما أن يكون أوليًّا ساذجًا أو شائكًا معقدًا، وربما لا نصل في نهاية الأمر إلى التصور الصحيح.
أكدتُ له أن جيلنا ومن سبقه تربى على قيم مختلفة جسَّدت أسمى معاني الوطنية والتسامح والفداء والنخوة وتحمل الصعاب والحرمان، قيم جسَّدها أشخاص مثَّلوا لنا قدوة نهتدي بهداها ونسير على خطاها فشكّلت وجداننا وألهبت مشاعرنا وأجَّجت عواطفنا.
أعربتُ له عن تعاطفي معه ومع كثير من جيله "البائس" الذي  انهارت قيمه وغابت قدوته وتلاشى انتماؤه، فشاعت السلبية والفردية، مُبديًا هواجس تؤرقني تظهر ملامحها في سمات الأجيال الناشئة، تتمثل في الميل للعنف واحتكار الرأي.
أخبرته أن اعتماده على الانترنت مع أبناء جيله، جعلهم يعيشون في واقع افتراضي وخيالي، فكان عامل ضياع وعزلة لهم عن محيطهم وذويهم، كما أنهم فاقدون للقدوة، فاختفت عندهم القيم الروحية وتأصَّلت لديهم المادية، ولم يعرفوا معنى الكفاح يومًا أو الصبر على نائبات الدهر التي حلَّت بنا وأرهقت قوانا، ولم يتجرعوا مرارة الانكسار والذل والهوان.
أنهيت رسالتي إليه قائلًا: "رغم القلق الذي ينتابني على مستقبل غامض ينتظرك ومن معك، إلا أن ثقتي وقناعاتي ترسَّخت بأنك أصبحت مُعلمي الصغير".