رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

دوائر مصر الناعمة: أرخص من الحرب

لم تختر مصر أن تصبح لاعباً إقليمياً.. وأحياناً دولياً، هكذا خُلقت. لكنها مع اللانظام المخلوع تحولت إلى "مومياء سياسية"، فالكل لعّب، بتفاوت، في مضخة دمها. أخوة: قطر، السعودية. أصدقاء: الصين والهند. منافسون: تركيا، يران. عدو: إسرائيل، والغرب مدعوماً بمنظومة (السفاري) الممولة سعودياً لصالح واشنطن.

****

بداية مايو الماضي، وقبل أن تكتمل ثلاثة أشهر على ثورة يناير، كانت منظومة الري المصرية "تبدأ تنفيذ" سلسلة مشروعات"خدمي" للاوغنديين. بناء عدة سدود صغيرة لتخزين المياه وتوفير الطاقة، وحفر أبار جوفية لمياه شرب مائة قرية، كل هذا بـ 4،5 مليون دولار. ثمن زهيد جداً لـ"ترسيخ" تأييد كمبالا للقاهرة في صراعا" حوض النيل، وفي الأفق القريب مشروعات مشتركة تمتد من البحث العلمي لخط سكة حديد يربط القاهرة بكمبالا عبر جوبا/ جنوب السودان. وفي ذات الشهر "زُرعت فعلاً" 10 ألاف فدان بالقمح ضمن مليون وربع المليون فدان سيزرعها سودانيون لحساب شركات مصرية، وفي الأفق مشروع مماثل في كينيا. ومنتصف الشهر الجاري وفي زيارة تاريخية للقاهرة، نسي رئيس وزراء أثيوبيا ملس زيناوي حديث التحدي.. ولو بالحرب ومخاوفه المُعلنة رسمياً من تدريبات مُستحدثة لفرق النخبة المصرية، وفي قلبها (السِيل) على حرب الغابات، متعهداً بأن سد الألفية لن يقتطع قطرة ماء من حصة مصر، ومشدداً على أن "الفلاح المصري والأثيوبي في مركب واحد".
تدريبات حرب الغابات جزء من تاريخ الجيش المصري، والمنطقي ان القاهرة لم تستحدث دراسات مسحت فيها، مثلاً، قرى ومدن اوغندا.. خلال فبراير ومارس الماضيين، فالرؤى والدراسات جاهزة دائماً، تنتظر القرار السياسي لرأس الدولة.. "مهندس الري الأول" كما اللقب الرسمي للفرعون.
****

حذرنا المفكر جمال حمدان: "لا وجود لها بدونه، مصر هي النيل". وفي (لمحات من مذكراته الخاصة) الصادر عن (عالم الكتب) إبريل 2010، يشدد صائغ (إفريقيا الجديدة) و(شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان) على أن الجغرافيا السياسية لأقدم دول العالم، كما تجلت في الستينيات "ليست ناصرية بقدر ما هي مصرية، حتى لو انفصلنا عنه، عبدالناصر، أو رفضناه كشخص أو كإنجاز". فهي سابقة ولاحقة له، لأنها وفق تعبيره "من خلق الجغرافيا الطبيعية"، والتخلي عن ثوابتها يحولها إلى "مومياء سياسية". محذراً من أنها ستصبح "مقبرة بحجم الدولة" إذا ما فقدت نيلها. استشرف حمدان نتيجة تفكك الدولة الأعرق، فهو دائماً يرى معياراً رئيسياً لـ"حال الدولة": مستوى منظومة الري، بقاءً وتقدماً.. وحماية.
لم يكن أمام الفراعنة، مع إيمانهم بأن نيلهم المقدس ينبع من السماء، خرائط ليقرأوا منها المحيط الحيوي لبقاء ورخاء كيانهم القومي، لكنها جينات الدولة التي تشربتها أرض أم الدنيا، مع جريان مياه شريان حياتها. وحين يجمع المؤرخون على أنها وحدها التي ظلت لسبعة آلاف عام بحدود/ جسد واحد ثابت، فالاستثناء هو أن تمد حدودها جنوباً، لتحتضن أراض من ذات الطين ضمن دولتها.. كمصوع المنفذ البحرى "الذي كان" الأهم لإثيوبيا، أو تضفي عليها بعضاً من اسمها.. (مصر العليا) التي ضمت اليمن والصومال. الثانية هي الآن، بدويلاتها، منفذ كل واردات وصادرات أديس أبابا.
قاعدة مقدسة، هي درع قطرات مياه تروي الحياة، امتدت جيناتها من الفراعنة للبطالسة للعرب للعثمانيين.. لمحمد علي، وتطورت في الستينيات لتعم إفريقيا.
****

تاريخياً، ظلت القوة على تخوم الملعب، تنزله في الدقيقة الأخيرة إذا تأخر حسم المباراة. فعلتها القاهرة مع الحبشة وكادت أن تفعلها مع سودان/ عبود، ليظل الاقتصاد هو صانع الألعاب ورأس الحربة معاً، وتصاحبه، كتفاً بكتف، القوة الناعمة بتنوعاتها.
هكذا بنت طيبة ثم الإسكندرية فالفسطاط.. وصولاً للقاهرة، الموانئ ونشرت قبساً من مدنيتها بطول البحر الأحمر، لنرى ضمن تراثنا، مثلاً، قصة الأميرة الحبشية (عايدة) الأوبرا الأشهر عالمياً. وهكذا عرفنا مصر العليا/ بلاد بونت الفرعونية. عدوليس.. البطلسية. زيلع/ الجبرتة (منها الجبرتي)/ الطراز.. العربية. سواكن/ مصوع/ هرر/ زيلع.. محمد علي وأبناؤه. ومنذ منتصف الخمسينيات، حتى بداية السبعينيات، تصبح حاضنة/ قاطرة أخطبوطية للقارة، أبرز أدواتها.. "25" ذراعا لشركة (النصر للاستيراد والتصدير).
أذرع، لم تنبت من فراغ. هي تطوير لشبكة اقتصادية هيمنت على شواطئ شرق إفريقيا لآلاف السنين مع توابعها الحضارية والسياسية، أياً كان حاكم وشعار القاهرة. فإضافة إلى الحماية التاريخية لتدفق النهر المقدس، جاءت قناة السويس التي يجب حماية مدخلها الجنوبي. هاهو (الخديو إسماعيل) يمد الحدود حتى البحيرات العظمى، ويضم للقبه: حاكم (مصوع) و(سواكن) و(هرر) و(زيلع).. كلها موانئ. وتصبح إثيوبيا، منبع 85% من مياه النيل، وسط "حدوة حصان" تتبع مصر رسمياً.. مع علاقات ودية، غالباً، مع حكام أديس أبابا بوسائل عدة، في قلبها "كنيستنا" القبطية. مع التمرد/ الثورة المهدية، تآكلت الحدود الرسمية لتقتصر على مصر والسودان.. الذي "صنعه" محمد علي قبلها بسنوات. ودفعنا ما بعده ثمناً للقضاء على المهدي.
بحثت جينات رجل الدولة عن حلول، فكان شريان الاقتصاد. الخديوي عباس حلمي يوجه البنك الأهلي عام 1905 بإنشاء بنك الحبشة كنواة لبنكها المركزي، يصك العملة وينظم تداول السندات والمعادن فيها. وحتى بعد تسليمه لحكومتها عام 1931 ظلت الجمعية العمومية له تُعقد في مقر البنك المصري.. حتى الستينيات. وطلعت باشا حرب، رجل الدولة، يؤسس فروعاً لبنك مصر في السودان ثم كينيا.. مع شركات تابعة له.
هي الجغرافيا السياسية تُجدد حلولها، ذروتها منظومة سياسة خارجية غطت القارة السمراء منذ منتصف الخمسينيات، لتشع بدعوات التحرر الوطني والاقتصادي والثقافي. أسس عبدالناصر مكتباً للشئون الإفريقية يتبع رئاسة الجمهورية.. يقوده الوزير محمد فائق، وشركة النصر للاستيراد والتصدير.. يقودها "جوكر" المخابرات محمد غانم. لتتغلغل بسلاسة داخل القارة، وتفتتح فروعاً لها في عواصم اختيرت بعناية. أنشأ صندوقاً للإعانات الإفريقية، وإدارة ضخمة لأعالي النيل.. إلخ.
****

قبل رحيل "المخلوع" بثمانية أشهر، أعلن "المؤتمر الإسلامي" عن تمويل "خط حديد إفريقيا" بدعم روسي صيني، يمر من أعالي النيل بعرض القارة.. منطلقاً من مينائي بورسودان وجيبوتي إلى إثيوبيا وأوغندا

حتى دكار على شاطئ الأطلسي، ليربط اقتصادياً بين 14 دولة، تغيب عنها مصر. لكن حسابات الخط إختلفت بعد عودة القاهرة لدورها الإقليمي، لتذكرنا بشبكة اقتصادية "كانت" تغطي إفريقيا طولاً وعرضاً. فـ(النصر للاستيراد والتصدير)، التي بدأت بـ 50 ألف دولار و120 خبيراً، "كانت ومازالت" تمتلك معارض ومخازن ضخمة في مدن إفريقيا الرئيسية، وفق خريطة مدروسة تفتح أسواق القارة أمام إنتاجنا، مُخترقة الاحتكار الأوروبي. نواة (النصر) كانت شركتان في غانا 1957، ثم أوغندا وكينيا، وبحلول سنة 1967 أصبح لها 35 فرعاً خارجياً، 25 منهاً فى إفريقيا. عدد موظفيها وخبرائها أكثر من 3600، تستخدم 13 سفينة شحن أكثر من نصفها تزيد حمولتها على ستة آلاف طن.
عرفت أسواق إفريقيا منتجات القاهرة: أقمشة وأدوية وأغذية معلبة، أثاثات خشبية ومعدنية وثلاجات وأجهزة تكييف، دراجات وإطارات وبطاريات سيارات وجرارات زراعية.. إلخ، بعضها من خطوط إنتاج تلائم تنوع أذواق القارة. وكلما تحسن المستوى سعراً وجودة، ازداد إقبال الأفارقة عليها، ومعها عقود لتطهير موانئ ولإنشاء طرق وفنادق ومطارات لا تزال قائمة. ومع كل عشرة ملايين دولار.. تُخلق ثلاثة آلاف فرصة عمل، وفرص موازية لألاف المدرسين والمهندسين والأطباء ومبعوثي الأزهر الذين تطلبهم دول إفريقيا بعقود مجزية.
ضمن القوى الناعمة.. مُولفة القلوب، دارت آلة الإنتاج السينمائي في كينيا وأوغندا والسودان. واتحاد كرة القدم القاري تحتضنه القاهرة، وثلاث دول من مؤسسيه الأربع على مجرى النيل. جامعات مصر تستقبل آلاف الأفارقة، بعضهم أتى من مدارس مصرية في السودان وأوغندا والحبشة، ومؤسسات ثقافية وملاعب ومنشآت في كل القارة، مازال بعضها يحمل اسم ناصر.. كجامعة غينيا الرئيسية. مدينة البعوث الإسلامية تستقبل عشرات الألاف، والأزهر يُرسل بعثات ودُعاة إلي دولها. و"كنيستنا" تمد ذراعها الرعوي من الإسكندرية لإثيوبيا وإريتريا، بفضل "تناغم" أبوخالد وأبونا كيرلس السادس، رحمهما الله وتقدست روحيهما. فمن "بابا مصر"، كان إمبراطور أديس أبابا ينال البركة ليحكم.
منظومة متكاملة، يخدمها قرين إعلامي موازي، صحافة وتليفزيون "كانا" يهيمنان على المنطقة كلها، و17 إذاعة موجهة لشعوب إفريقيا بـ13 لغة محلية، مع الإنجليزية والفرنسية والعربية، ومعهد للإعلام الإفريقي يربي وزراء وقادة رأي.
****

حين وصف أنور السادات (أكتوبر) بـ"آخر الحروب"، سأله صحفي غربي: ألن تحاربوا ثانية. رد بعفوية: سأقاتل إذا مُست حقوقنا في النيل. وقتها، كانت إفريقيا معنا ضد إسرائيل، ولم نكن نحتاج لتحويل مدافعنا جنوباً. في ذات التوقيت تقريباً، عام 1974، كان الأديب (بهاء طاهر) يقف أمام دكان بدائي في أحراش كينيا، سأل البائع عمن يعلق صورته، أجابه باستنكار: "ألا تعرفه.. ذا فاذر أوف إفريقيا"، بالطبع يعرف (بهاء) عبدالناصر. كنا الأب وحاضنة أحلام قارة، فتمر مياهها إلينا بسماحة وتقدير.
لكن سياسات انكماش مصر في واديها الضيق حتى أشهر مضت، أوصلها تدريجياً إلى زاوية الحلبة.. وظهرها للجفاف. فمع السادات أغلقنا مكتب الشئون الإفريقية، وعادينا نظام منسجتو الأثيوبي، فقط لأنه "شيوعي". ومع مبارك استغنينا عن مؤسساتنا الثقافية، آخرها فرع جامعة القاهرة بالخرطوم، وصفينا معظم فروع شركة النصر، واختفى خبراء الري من دول الحوض، وقيدنا تأشيرات دخول الأفارقة،  وحين تفجرت أزمة تقسيم مياه النيل، كان أعضاء الوفود يُختارون "بالدور من اجل بدل السفر".
تغييب لرؤى مترسخة عبر ألاف السنين. بالطبع، مازال لأجهزتنا وجود "مؤسسي" موروث عن الستينيات، لكنها كُبلت. فكان "عار" صفر المونديال، حين تضافر غياب المراحيض عن البنية التحتية مع تغيبنا عن القارة السوداء. هي أواني تفكك مُستطرقة، تراجع معها دورنا في إفريقيا، واختفت عوائد اقتصادية ومعنوية، تكلفتها أرخص من تكلفة الفوز "الضائع" باستضافة المونديال، أو بمقعد دائم عن إفريقيا في مجلس الأمن، أو لاستعادة هيبة أُهدرت، ومن أي حرب.. ومن قطرة دم مصرية تُراق فيها.
شل السادات ومن بعده مبارك "أذرع" مصر، لكنها تتعافى تدريجياً منذ يناير الماضي. العنقاء تجدد جينات دولتها.

الجمعة 30 سبتمبر 2011
الأخبار اللبنانية
http://www.al-akhbar.com/node/22506