رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مع أبي همام .. كانت لنا أعوام

أبو همام أستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وعضو مجمع اللغة العربية، ومقرر اللجنة الدائمة للغة العربية لترقية الأساتذة المساعدين بالمجلس الأعلى للجامعات، وعملاق الكلمة والشاعر المفلق والناقد الحاذق.

ولد "أبو همام" عبد اللطيف عبد الحليم، عام 1945 في قرية طوخ دلكة - محافظة المنوفية، وحفظ القرآن، ثم التحق بالمعهد الأزهري بشبين الكوم, ثم بالمعهد النموذجي للأزهر بالقاهرة, ثم التحق بكلية دار العلوم وتخرج فيها 1970, وعين فيها معيدا، ثم حصل على الماجستير 1974, ثم سافر فى بعثة دراسية إلى جامعة مدريد عام 1976، وحصل منها على درجتي الليسانس والماجستير مرة أخرى، ثم على دكتوراه الدولة بتقدير ممتاز من جامعة مدريد 1983، وعاد إلى مصر وعين أستاذًا ورئيسا لقسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم.
كان رئيس مجلس إدارة جمعية العقاد الأدبية 1985 - 1988, وعضو اتحاد الكتاب, وجمعية الأدب المقارن، نشر شعره في صحف الوطن العربي ومجلاته, وكتب مقدمات لبعض السلاسل الأدبية في الشعر والقصة، دواوينه الشعرية : الخوف من المطر 1974 - لزوميات وقصائد أخرى 1985 - هدير الصمت 1987 - مقام المنسرح 1989 - أغاني العاشق الأندلسي 1992 - زهرة النار 1998، و من أعماله الإبداعية الأخرى: ترجم مسرحية: خاتمان من أجل سيدة 1984 - قصائد من إسبانيا وأميركا اللاتينية 1987, وإبداعات أخرى، أما مؤلفاته، فمنها: المازني شاعرًا - شعراء ما بعد الديوان - في الشعر العماني المعاصر.
حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة الإبداعية 1987, وجائزة مؤسسة البابطين للإبداع الشعري عن أفضل ديوان عام 2000, وترجم بعض شعره إلى الإسبانية والفرنسية، وانضم إلى عضوية المجمع اللغوي بالقاهرة عام 2012م.
تلك إطلالة سريعة حول سيرته التي عرفناها عنه وسمعنا أكثرها منه، وتعلقت قلوبنا به، فلقد كان للدراعمة ولغيرهم من مريديه ومرتاديها روحا متدفقة بالحب والخير والجمال، حتى إني لأزعم أن تراب الأرض ورمال البيداء قد حزنت على رحيله، وانتقال رحله إلى درب ربه، وأقامت فيما بينها حفلات التأبين، وشاعت كلمات الشجن وعبارات الحزن، وانتظمت فيه قصائد الرثاء، وانتثرت له منثورات الصبر على المصائب والبلاء، وإذا بنا معشر الفسابكة قد ملأنا صفحاتنا بحورا من بكاءات العين، ومحروقات الفؤاد، وثارت مكتوباتنا علينا حتى لم نستطع أن نلجمها أو نتحكم فيها، فانهال المداد وفاض بما يستطيع كل منا أن يفيض، ويرثي بما يأتيه وما لا يأتيه، وأضحى نهارنا كليلنا، وليلنا كنهارنا، وما بتنا ليالينا، وما بقينا نهارنا كما عاشهما بشر من غير مريدي أستاذنا، ولم يصدق أحد منا الخبر، حتى شاعت مقولتي بين الجميع: طبت حيا وميتا يا أبا همام، والتي جسدت تأكيدا لا شك فيه، وحتمت يقينا لا ظن إليه، وشرع كل منا يذكر مواقفه مع الشيخ الفقيد أستاذنا، وكيف أنه كان إمام الحب، وصناجة الدار، وشاعر الأصالة، وروح الدراعمة، وملهم المريدين، وعجيبة المجمعيين.. إلى غير ذلك مما أطلق عليه على صفحات الفسبكة.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
وكانت لي معه مواقف عديدة، وتجارب كثيرة، واختلافات متنوعة، حصل فيها ما يحصل بين الشيخ وتلميذه من التوجيه والإرشاد، والنقد والإيجاد، والتشجيع والتحفيز والتحميس، والاختلاف والائتلاف، والجد والهزل والمزاح، وما أكثر الأخيرة التي ارتسمت على وجهه بسببها علامات الرضا والقناعة والقبول في مرضه الذي مات به وفيه.
ومن أهم ما شاع بيننا في أروقة المحاضرات وقاعات الدرس، وفي شدهات الندوات والملتقيات، وفي الهاتف وغرفة مكتبه بالدار، مواقف علمية ونقدية وشعرية واجتماعية، وأول لقاء بيننا كان عقب التحاقي بدار العلوم، واشتراكي في دورة "العروض وتذوق الشعر" التي كانت تنظمها مؤسسة البابطين – نضر الله أيامها وصاحبها–فانتقى لنا في محاضراته عددا من القصائد أذكر منها قصيدة "الحب والحرب" لشاعر العروبة علي الجارم، وإذا بي أمام شيخ من القرون الأولى، من حيث: مظهره بعصاه العربية العريقة التي أثارتني، وقبعته العقادية الأنيقة التي أبهرتني،وطريقة قراءته وأسلوب شرحه وتحليله، فأحببت القصيدة من أجله،وحفظتها جيدا، وحفزني إلى زيارة ديوان الجارم نفسه، ثم إلى دواوين أخرى قديمة وحديثة، وقد كان، وبخاصة دواوين شيخه العقاد.
لقد كان كثير الإحالة إلى الأستاذ العقاد، وطرح رؤاه وبث أفكاره، وما أكثر قصصه إلينا بحواراته معه وملازمته له، ومواقفه في مجالساته مع أبي فهر وما دار بينهما من ائتلافات واختلافات.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
لقد تأثر بالشماخ سلفا وبالعقاد خلفا وبالمنسرح إيقاعا وإلفا، فكتب الشعر الموزون المقفى، في زمن حوربت الأصالة العربية من أهلها المتغربين، وظل على عهده ولم يصبأ كما فعله عدد من جيله، تمشيا مع الموضة على حد تعبيره.
كانت المدرجات في محاضرته تشحن بالطلبة، وتكتظ بالمريدين، وتزدحم بالمحبين الطامحين،فإذا دخل محاضراته ألقى سلامه وأخذ مجلسه الشامخ، وبأنفته المعهودة يلقي من الشعر أحسنه وأجمله، فننتشي معه، وما أكثر دعاباته وابتساماته، وتحريضه على الحب والتشبيب بالحبيبة ...إنه يعيش ليحب، فأحبه الحب، وأخلده، سألناه مرة يا أبا همام، ماذا عن الحب؟!
فقال: أنا لا أستطيع أن أعيش لحظة واحدة دون حب، أحب البنات والرجال والأماكن ...، أحب على طول يا إخواننا، ولا أعرف الكره، إنما أكره النذال والنفاق إلى أبعد مدى، وكل تجربة في الحب عشتها كنت شديد الإخلاص لها، لما كنت في الدار القديمة نضر الله أيامها أحببت زميلات لي ....، يا ولاد حبوا بعض، واتجوز زميلتك، فلن تجد أحن عليك ولا أكثر فهما لك إلا درعمية مثلك.
وقلت له مرة ونحن في الحديث عن سبل نهضة الأمة وطرق صحوتها من كبوتها، كيف تنهض الأمة؟!
فقال: أنا مؤمن أن هذه الأمة إذا عادت إلى لغتها وإلى شعرها الحقيقي فسوف يعود لها وجهها، ولا داعي لشعارات الإسلام هو الحل ولا هو الباطل.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
اشتهر عني في دفعتي كثرة أسئلتي له، فكان يقول مازحا: "أنا بخاف من أسئلتك يا واد يا حجاج .."، ويطلب مني أن أذكر السؤال بصوت عال حتى يسمعه الجميع فتعم الفائدة، وكانت تلك عادته، أنه لا يجيب عن سؤال لسائله بمفرده ما دام في جمع من الطلبة، وما اكثر اختلافاتي معه حول رأيه في أمير الشعراء أحمد شوقي، وموقفه الذي تابع فيه رأي العقاد حول شعره، ولكنه دائما ما كان يتركنا في حرية مطلقة، واقتناع برأي ورفض الآخر، والمهم عنده إعمال العقل قبل اتخاذ أي رأي.
وسألته: يقولون في اللغة: إن خطأ شائعًا أفضل من صواب متروك، وأنت تستخدم الكثير من الألفاظ العربية غير المتداولة الآن. فلماذا؟ولماذا إصرارك على القالب الكلاسيكي العمودي؟
فقال: اسمع يا ولدي: إن اللغة العربية علي لساني طيعة وموهبة وزادي في اللغة كثير

وأنا أمعن النظر في المعاجم وفي الدواوين الشعرية وفي النثر القديم وكانت الصحف قديما يكتب فيها العقاد مقالات صعبة فعلي القارئ ان يبذل جهدا وليس علي الكاتب أو المبدع أن يتنزل إلي القارئ وكل امرؤ ينفق من كيسه ومن سعته فلماذا أقتر. أنا الذي حفظت قبل دخولي دار العلوم دواوين العقاد العشرة ومعظم ديوان المتنبي وديوان الحماسة كله لأبي تمام.
ولما كنت حديث عهد بالمسابقات الشعرية مع التحاقي بالدار، فقد اشتركت في عدد منها، ونلت جوائز متنوعة، وتزكية صديق عمره أستاذي الدكتور أحمد كشك، فأريته قصيدة لي عنونتها "هوى النفس"، فقال: يادوبك بدأت تكتب شعر أهوة، بس اقرأ كتير واكتب قليل.
وقال يمازحني في عصاي: هو انته كبرت ولا ايه يا واد يا حجاج، وما لها عصايتك حلوة كده.
وقال لي، لما أردت أن أسجل معه في قسم الدراسات الأدبية: "انته عايزتاكل عيش يا حجاج، وقسمنا مبيأكلش عيش، روح قسم النحو هناك كشك وحماسة وشعبان اتعلم منهم وسجل معاهم، وخلص بسرعة"، وكان نعم التوجيه، فمَنَّ الله عليَّ بموضوع في الماجستير يجمع بين الحسنيين، ويشرف عليَّ فيه صديقه وأخوه "كشك"، على نحو ما قد أوصى به.
وسمعته يقول في إحدى مناقشاته العلمية الدقيقة عما يجب على الباحثين في الماجستير: "لا يطلب لطالب في رسالة ماجستير أن يأتي بجديد، وإنما حسبه أن يصنف المعلومات التي استعان بها، والمصادر التي تصرف فيها وأحسن التعبير عنها، وليس المطلوب أن يسحب الأستاذُ طالبَه في كل خطواته، فحسبه أن يدله على الطريق التي توصله إلى .. – وسأل صديقنا رجب السيد: انته منين يا وله؟فأجاب: من الفيوم يا أستاذنا، فأكمل قائلا: التي توصله إلى الفيوم، ولا يحمله على كاهله ليذهب به إلى الفيوم، ما يعني الأستاذ المشرف موجه لتلميذه ومرشد له، وليس من مهامه اصطحابه في كل شيء، وليس على الطالب أن يسير في ركابه مقلدا وفقط، وإنما عليه أن يبرز شخصيته، وأن يؤكد فكرته برؤيته، اعتمادا على أسس منطقية، وأدلة حقيقية.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
وحكىلنا يوما"أنه حين ذهب إلى أبي فهر - رحمه الله - وهو إذ ذاك معيد بالدار،فدار بينهما حديث ثم أنشد أبو همام قول ابن الرومي:
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج  .... طريقان شتى مستقيم وأعوج !
فقرأ بالجيم القاهرية في كل ذلك، فنادى أبو فهر ابنته زلفى وقال لها اقرأي: "والفجر، وليال عشر" فقرأتها بالجيم المعطشة، فالتفت إلى أبي همام وقال له: "اتعلم يا أستاذ"، قال أبو همام: فتقبلت ذلك بنفس راضية وصدر فسيح؛ لأني لمست في نفسي جانبا من خلق أبي فهر،ومن صبر على أبي فهر نال ما تمنى"... وقال وقال،مقولات أعيش بها وعليها حتى الممات.
وحديث الشعر كان أحب الأحاديث إليه إذ يقول: أنا أستاذ أكاديمي، أديب ناقدمترجم، لكنني أولا وآخرا شاعر، شعرى حياتي، وحياتي شعري، وكان حريصا على القول بأنه شاعر ينتمى إيقاعيا إلى دوحة "الشعر العمودي"، الذي كان يؤثر تسميته "الشعر البيتي"، وكان يدعو الله أن يحيا شاعرا، ويموت شاعرا، ويحشر في زمرة الشعراء.
لقد كان جلدا، شديدا في الحق، قويا على الباطل، وأكثر من الاستقالات، ولم تنحن رأسه لأحد أبدا، وصاغ هذا في شعره، ليخلد به، وما أكثر تكراره له:
ما انحنينا أبدا في زمان تنحني فيه الرؤوس العليلة
وشاع في أخريات حياته حضور معجم الموت في شعره، مثل: الرثاء،والموت،والانتحار،والرحيل، والحمام،والختام،واللحد،والمنون،والقبر، بل يبدو أنه عقد صداقة مع الموت في مرضه المتواصل، وكتب في مرضه الأخير قصيدة: "مثاني العناية المركّزة"، التي أملاها على زوجه وهو في حالته تلك، يقول فيها:
غازلني الموت وغازلته .. والوجه منا عابس باسر
هل لك في الراحة يا صاحبي .. إن كلينا هابط عاثر
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ
سأبكيك يا شيخي ما حييت،ولأذكرن مآثرك ما بقيت.
ألا يا روح أبي همام رفرفي بجناحي اللسان والبيان في الفردوس، واحجزي لي مقعدا بين يديه، وغردي بشعره الرقراق بين بلابل الأنس، فإنا لاحقون به يا نفس.
لقد رحل صناجة الدار، فاكتمي يا روحي النفس، وإذا تداعى شعورك بفقد أبي همام فاستزيدي الحس، إننا محزونون بك لك، دامعون منك عليك، يا أريج اللسان ويا نسيج البيان، فمن يخلفك في مقام، كنا قد ظنناه طويلا؟!!حتى ارتضينا تأخره قولا وأقوم قيلا، ولما تأكد بغير دائرة، تركت فينا مجمعا، وكنت بين أركانه ركنا جليلا.
طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا أَبَا هَمَّامِ