عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

محمد الدويك يكتب: الخماسين


أعرف أن عمرو دياب ليس ملائما لرجل نصف شعره استحال إلى اللون الرمادي.. أحب سماع أغنيته الأخيرة – سبت فراغ كبير – في سيارتي أثناء العودة في المساء.. ربما عمرو، عمره من عمري، لكني لا املك قدرته على مجاراه العصر.. أنا رجل الماضي بامتياز.

تذكرين كيف احتفلنا سويا بعيد ميلادي الثلاثين منذ عشر سنين.. حيث لقاءنا الأول.. يوم ميلادي هو يوم عملية Nickel grass، حشائش النيكل، التي اعتمدتها امريكا لامداد خطوط القتال الامامية الاسرائيلية بأكبر قدر من الدبابات والذخائر لتعوض الفقد الذي اصيبت به في أول ثلاثة أيام من القتال في أكتوبر.

الجوية الأمريكية صنعت جسرا عبر طائرات C 5، أكبر ناقلات في الجيش الأمريكي، بعد أن استغاثت جولدا مائيير بالرئيس نيكسون من شدة الهجوم المصري. ما جعله ينقل جيشا صغيرا بحمولة 22 ألف طن إلى قلب المعركة. تصرفهم لا شك أحدث فارقا كبيرا، ما جعل اللواء آرئيل شارون يقوم بالتفاف حول الجيش الثالث ويتقدم ناحية الاسماعيلية ويهدد القاهرة نفسها، لتبدأ المفاوضات عند الكيلو 101 يوم 22 أكتوبر.

9 أكتوبر 73 جئت إلى الحياة، وبعدها بأقل من عشرين يوما رحل أبي عن الدنيا بشظية في رئتيه.. يقولون أنه كان ضابطا شجاعا لم يفارق أرض القتال إلا بعد أن عبر إلى الضفة الشرقية، ووضع حفنة من ترابها في زمزية الماء ثم شرب الماء مترعا بالتراب.

لن أخبرك عن مشاعر طفل نشأ يتيما.. من افتقد ضمة تمس ضلوع أبيه القوية لن يشعر بالأمان طيلة العمر.. كنت تلميذا مجتهدا، ليس حبا في العلم ولكن حتى لا يضطروا لاستدعاء ولي أمري.. لم أكن أتشاجر كبقية الصبية، لم أصاحب فتاة في المراهقة، ولم أحب يوما حفلات التكريم التي يفتخر فيها الآباء بأبنائهم..

أمي أمرأة شريفة صبورة. لم تفعل شيئا سوى رعايتنا، لكن لهذا آثارا سليبة على أعصابها. دائما مضغوطة متوترة مشوشة. من فقدت زوجها قبل أن تتم الثلاثين لا يلومها أحد على أفعالها.. صمودها في الحياة وحده يستحق التقدير.

وعندما عينت دبلوماسيا في الخارجية المصرية اخترت أن أذهب إلى افريقيا.. الكل يتسابق على أوروبا والخليج، وأنا أحببت القارة السمراء.. هناك حيث المرض والقبلية وصراعات النفوذ والعصابات المسلحة وتجارة السلاح. أكلت معهم عجينة الكاسافا وتعلمت اللغة الهوسية.

*
كنت جبانا عندما ارتضيت لعلاقتنا أن تبقى في الظل.. لم أملك شجاعة تحمل مسئولية حبنا.. أنت الوحيدة التي تراني من الداخل عاريا مرتعشا فاقد الثقة.. اليتامى هم أبرع الأطفال – الكبار – الذين يستطيعون مداراة مشاعرهم.. الكل يعرفني واثقا ذكيا حاسما. ولم أسمح لأحد أن يطالع الأعماق التي تدفن ذاك الطفل الذي يخشى أن يتشاجر ولو لمرة.

برنامجك الأخير في إحدى القنوات الخاصة أكثر من رائع.. أشاهده وأتذكرك مذيعة صغيرة بالتلفزيون المصري مليئة بالحياة. تصغريني بخمس سنين، لكنك في نظري أكبر من النبي نوح.

تشبهين إلى حد ما رئيسة البرازيل ديلما روسيف.. تلك المرأة التي تهدد أمريكا ذاتها. وتضغط على أوباما ليعتذر عن تجاوزاته.. إدوارد سنودن، الهارب إلى روسيا، والذي كان يعمل بالاستخبارات الأمريكية في برامج تجسس تطال نصف العالم، كشف عن تجسس أمريكا على البريد الإلكتروني لديلما.. لم تسكت المرأة وهددت بإلغاء صفقة طائرات بوينج قيمتها 4 مليارات دولار مع أمريكا إن لم يعتذر أوباما.

الرجال لا تميل للنساء الحازمات.. بينما أنا أحببت فيك هذا الحزم.. ربما لأن قوتك كانت تحتوي كل ضعفي وخوفي.. كثيرا ما تهيئنا لممارسة الجنس، وما أن أسند رأسي إلى صدرك الممتلئ، كنت أنام كطفل في وضعه الجنيني.. وفي لحظات متعتنا كنت تستسلمين بين يدي، تجعلين مني خليفة عباسي يحكم ضياع العالم، تداعبه إحدى جواريه.. تتأودين كعارضة أزياء تمشي cat walk .. تتبرجين بهدوء وتصرخين برفق.

أنا رجل لم يعرف النساء. ولا يعرف فحولته. ولم يجرب صلابته من قبل. أنا رجل مهزوز إلى أقصى درجة. ولكن رفقك ودلالك جعلاني قادر على أن أكون واثقا للمرة الأولى. أن

أكون رجلا. رجلك أنت.. أو رجل لامرأة واحدة. 

لست متدينا.. لكني لا أكذب ولا أخون.. لا أصنع مكائد ولا أتحايل.. وأحقق طموحي بوسائل مشروعة.. لم أقفز فوق كتف أحد ولم آخذ حق غيري في منصب يستحقه. ولا أعاقر الخمر.. وارتضيت أن تكوني خطيئتي التي لا  أندم عليها. الندم هو أول مراحل المغفرة. وأنا أنوي أن أرحل إلى الله بذنبي هذا.

في أول عشر آيات من سورة النساء يتحدث الله عن اليتامى في أربع منها.. يحذر من ظلمهم أو التعدي على أموالهم وحقوقهم. يزرع في تابعيه الشرف والمسئولية عن الضعفاء الذين لا يجدون من ينتصر لهم. وأن الوفاء بالحقوق جزء من الضمير الديني لدى أصحابه.

الدين جاء لرعاية هؤلاء. جاء من أجل قضايا كتلك. لا أجد في قوانين العالم ما يحمي الضعفاء مثلما فعل الدين. إنه إضافة كبرى في الثقافة والوعي البشري لو تعلمين.

كان لأبي فدان أرض في بلدتنا الصغيرة. طالبت أمي بنصيبنا من عمي الأكبر. ورفض. بحجة أن أبي تلقى قسطا من التعليم، وبذلك فهو قد أخذ حقه.. لم تجادل أمي و خرجت في كبرياء ولم تعد للبلدة مرة ثانية. عرفنا بعدها أن عمي باع الفدان واستولى على ثمنه. ثم ذهب لآداء العمرة.

*
عشت في رواندا سنوات الحرب بين  القبائل.. مذبحة راح فيها مليون قتيل.. قبيلتي الهوتو والتوتسي.. الاثنتان مسيحيتان تنتميان للمذهب الكاثوليكي. ولم يمنعهما التشابه في الدين من الاحتراب. من احتمى بالكنيسة قتلوه. من احتمى بقوات حفظ السلام الدولية قتلوه.. ولم ينج إلا من احتمى بالمساجد.. المسلمون فقط هم من رفضوا الاشتراك في تلك الجريمة. فتحوا مساجدهم للفارين الخائفين من القبيلة المعادية. جازفوا بحمايتهم من أبناء قبيلتهم. واختصروا موقفهم بمقولة بسيطة:

المسلمون أمة واحدة لا تمارس القتل.

وكان لهذا الموقف النبيل دور كبير في إنهاء المجزرة. ودور أكبر في زيادة تعداد المتحولين إلى الإسلام.. الرئيس الرواندي شكر المسلمين وقال بصراحة: المسلمون لم يقتلوا لسبب واحد.. أنهم مسلمون.

لا أجد في كل شنشنات الفقه وتقعير الكتب القديمة واستعراضات المشايخ شيء يوازي تلك الكلمات البسيطة التي سمعتها بأذني من مسلمون بسطاء أخذوا الدين الفطري النقي وجعلوه محركا وباعثا لسلوكهم وطريقة حياتهم.

صدقيني لو فعلها البوذيون أو المسيحيون لانقلب الإعلام الدولي يمجد هذا التصرف النبيل. أما مع المسلمين فهم يهوون تصدير صورة أسامة بن لادن إلى جوار سلاحه الكورينكوف.

*
لا أعرف كم تبقى من حياتي حتى أظل مترددا في قراري. لكني سأبتعد حتى لا أمثل عبئا عليك. سأتابعك من بعيد عبر شاشة التلفاز، ولن أتوقف عن الكتابة إليك. وسأضع الورق أسفل الوسادة التي عليها بقايا عطرك.