رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

صيادو الإسكندرية بين الفقر وقلة الحيلة ومافيا الزريعة

بوابة الوفد الإلكترونية

 

كتبت- رغدة خالد / تصوير- دينا الباسوسى

 

على امتداد «وادى القمر»؛ حيث يلوح الموت شاهراً جراراته، وتنفث مصانع الأسمنت ومعامل تكرير البترول أدخنتها فى الهواء، تتراص هى بلونها الفيروزى كحبات عقد نفيس يضوى تحت خيوط شمس النهار، تلضم نسائم البحر مراكب «المكس»، فينيسيا الشرق، وتحركها الأمواج كقطع شطرنج بالية على رقعة عائمة. مشهد من قصة قديمة غارقة فى عتمة الإهمال والفساد منذ عشرات السنين، على بعد عدة أمتار يقطن محمد عبدالرازق، صياد، فى منزل متهالك يقوم على طابقين، يحف مياه جزيرة سلطان، فيما يجلس منحنى الرأس شارداً، ببشرة خضبتها أشعة الشمس بسمرة قاتمة وبددتها قلة الحيلة وطول الانتظار، متجهماً، ينصت لمذياعه العتيق؛ أملاً أن تحمل موجات الأثير المحلية بشرى تثلج صدره بفك الحظر على الصيد ليهم بحمل شباكه وصنارته، مغادراً بحثاً عن لقمة العيش.

لثانى أسبوع لم يحمل الحظ جديداً لعبدالرازق، الشهير بـ«مكرونة»، فشواطئ عروس البحر موصدة أمام خيرة أبنائها، وأرقهم حالاً، تتناثر مراكبهم كجثث هامدة بمحاذاة الشاطئ، يرقد فى تجهم مستعيداً ذكريات أطلال الماضى، وشواهد حديقته الغناء القديمة التى فارقها الرغد، ملعب أطفاله صغاراً، أضحت الآن خاوية على عروشها، فيما كانت تحفها أشجار الموز والنخيل، ويمتد بينها العشب تقابله أحواض الزهور، جارت عليها الأيام فأضحت صعيداً أجرد، ينتشله صوت زوجته الرخيم من أفكاره، ضلعه المستقيم واليد الدافئة التى تربت على قلبه فى تلك الأيام الحالكة، تستأذنه للخروج؛ سعياً لطلب الرزق بالتجارة فى دكانها الصغير، إرث والدها الوحيد.

يقاوم ألم الجوع الذى يعتصر أمعاءه، متظاهراً بالجلد يبتسم فى وجه نجليه «نادر»، وصغيرته «آلاء»، بينما ترتسم علامات الضعف على قسمات وجهيهما الغضة، ويتعالى أزيز أحشائهما الخاوية، فينتفض الأب مبارحاً مكانه ليركض خلف السراب وأوهام حاول زرعها بائساً فى نفوسهما بالبحث عن عمل جديد.

 «الصيد» تركته الوحيدة ورثها أباً عن جد، فلم يسعفه تواضع تعليمه لإيجاد بديل يعود عليه بما يكفيه وأسرته.

يرقب دقات الساعة تغدو متثاقلة يخرج متخفياً قبل ظهور أول خيوط الفجر حاملاً عوامته و«الغزل»، شبكة الصيد، يركض خائفاً قبل أن يلقى بنفسه بين أحضان الأمواج، متفادياً الصخور المسننة، أضواء المنارة على وجهه فتتجلى ملامح الترقب والحذر، بينما يحاول خرق منع الصيد المفروض على السواحل خلال الأسبوعين الماضيين، لإيجاد ما يسكت به جوع أطفاله.

يغصه الأسى، ويتجرع مذاق المرارة اللاذعة، مستجمعاً ما بقى من قواه، ليهم بالرجوع خالى الوفاض لأسرته، مجرجراً ذيول الخيبة، تستقبله نظرات ابنته الحانية، فرحة بعد أن تآكلت سنون عمرها الـ11، تحت وطأة الانتظار، وغضطت الهواجس وجهها الندى، ساعات من الليل قضتها شاخصة ببصرها إزاء الفنار تهز رأسها بين الحين والآخر لطرد أشباح الخوف وخواطر الفجع التى تغرس بنصلها البارد بين سويداء قلبها الغض، كل ليلة خلال الأيام الطويلة الماضية، يجلس ليلتقط أنفاسه المتلاحقة من فرط السباحة، بينما يستعيد ذكريات الحياة الرحبة التى حيزت له منذ ولد بالمكس، وحتى اشتد عوده وورث مهنة والده، فكان يعود محملاً بالخيرات من أفضل الأسماك الطازجة، يبيع الفائض منها عن حاجة أسرته بسعر معقول كان يصل فى بعض الأحيان لـ30 جنيهاً لكيلو السبيط، والذى أصبحت تشويه اليوم حمى الأسعار لندرة الصيد فلا يباع بأقل من ١٢٠ جنيهاً للكيلو بالشوانى، بينما يتراوح سعر البورى بين الـ60 و70 جنيهاً للكيلو، والجمبرى تخطى حاجز الـ200 جنيه.

بحى الإبراهيمية، يحمل صنارته التى تتجاوز قامته ذات الـ14 ربيعاً، مغادراً تلك الشقة الصغيرة، مصيف أسرته المطل على شاطئ عروس البحر، يغادر «محمد شوكت»، مع سطوع شمس النهار مهرولاً إلى الشاطئ، يستشعر حالة البحر بفطرته الصبية، قبل أن يلقى بصنارته بين عباب الأمواج، يملأ صدره بنسائم البحر الرطبة، مستقبلاً جولة جديدة فى تعلم مغزى هوايته الأثيرة، منفساً عن طاقة شبابه الجامحة وضغوط عام دراسى طويل تكبد خلاله الكثير من المشاق والخيبات وأحرز فيه قسطاً من النجاح والتقدم.

يمضى «شوكت»، الطالب بالمرحلة الإعدادية، ساعات النهار مستشرفاً صفحة البحر الرقراقة، فيما تلقته «البوصة» أول دروس الحياة فى الصبر والمثابرة، هوايته التى نما شغفها بقلبه منذ استقبلت عيناه نور الحياة، ينتظر مرور الأشهر والأسابيع للقدوم للإسكندرية وممارسة فنون الصيد على يد خيرة الصيادين من البسطاء الكادحين الذين ينقلون ما أتاهم البحر من حنكة دون نظير سواء تمرير ذلك العشق السارى بوجدانهم للصيد إلى الأجيال القادمة لتظل الإسكندرية عروسًا فى كل العصور والأزمان.

اليوم يخوض أولى تجارب اليأس والأسى، فسفينة أحلامه الشابة لم تجد ميناء ترسو فيه، بعدما غلقت الموانئ والشواطئ أمام الصيادين والهواة وحُكم على أمانيه الوليدة بالرجوع بصيد وفير يقر عينه بالإنكسار، ينتظر شمس كل صباح متطلعًا إلى البحر تعلو وجهه نظرات الحرمان يرقب البشرى من أصدقائه بالنزول فلقد أن الأوان ليلقى محبوبه مرة أخرى دون عزول.

فى إحدى أزقة حى الورديان العتيق، يوقف دراجته التى دب الصدأ فى أوصالها، على جانب الطريق، ويهم بالترجل عنها قاصدًا متجر صديقه وعشرة عمره «عماد»، تمر دقائق يخرج بعدها «إسلام» وحصل على مبتغاه تشيعه نظرات صديقه المشفقة فيما يودعه بدعوات خالصة بصلاح الحال وانقشاع الغمة، مرتلًا بضع آيات من الذكر الحكيم تكفكف مدامعه الندية، «ولا تهنوا ولا تحزنوا»، يصعد «إسلام» على عجلته مطأطأ الوجه تعكس شمس المغيب الأفلة دموعًا تختلج بين جفنيه تأبى الاستسلام راضخة بالسقوط، مؤثرة الصمود لمزيد من الوقت قبل أن يترك لها العنان لتنسل دافئة على وجهه الأزهر، فيما يتجاوز عتبات منزله المتداعى على بعد أمتار قليلة، حيث فناء منزله، ملعب طفولته برفقة أشقائه الخمسة، ومسكب دموعه خلال الشهور الماضية، شاهدًا على لحظات ضعفه وقصر اليد، قبل أن ينفض أثر الحزن عن قسمات ووجهه ليفسح موضعًا لمعالم مبهمة تحل مكانها، ويشدد قامته المديدة مستقبلًا أعين زوجته القلقة بمزيد من الشرود.

يقطن «إسلام» شقة متواضعة تخط جدرانها الصدوع، برفقة زوجته وطفلين، لم يتعد عمر كبيرهما الـ 5 سنوات، العائل الوحيد لأسرة مكونة من 3 أشخاص تنتظر زائرًا جديدًا مع حلول الخريف، ووالدته المسنة و3 من أشقائه، «محمد»، و"أحمد"، و"فارس"، يمتهنون حرفًا بسيطة تدر عليهم النزر اليسير، يتخذون مسكنًا مقابلًا له، عاكفًا هو على رعايتهم، خلفًا لوالده منذ ما يقرب 15 عامًا، منحلًا من وثاق التعليم ليلقى بروحه إلى أمواج البحر صيادًا لم يشب عن التوق يعشق الصبر، يمتطى صهوة مركبته الأولى فى سن العشرين، تلك المركب التى تواريها رمال شاطئ بحرى اليوم بعد أن أقعده حظر الصيد خلال الشهور الأخيرة، يسعى لتفقد حالتها بعين الحسرة فى زيارات لاتنقطع.

 

يقبع منزويًا بإحدى أركان غرفة نومه مقاومًا الهم الذى أشاح تدفق الحياة عن وجهه، يمسك بهاتف بالى طمست معالمه فيدس رقمًا جديدًا لقائمة دائنيه الطويلة على حاشية ملاحظات تبدأ باسم صديقه «عماد»، بصوت متهدج يسرد خفايا معاركه الضارية مع

الكسرة، وضيق الحال الذى يقض مضجعه كلما زاره النعاس، فيما ينسل متلصصًا فى جنح الظلام ليلقى بآخر آماله إلى البحر حاملًا عوامته السوداء الضخمة، وغزله السمين، وعصا معصوبة بقطعة قماش حريرية، يطلق عليها الصيادون «طرحة»، تمكنه من اصطياد يبيت لياليه متدثرًا بماء البحر يقاوم النعاس ويصارع التيار، خشية أن تدركه أعين رجال الشرطة فتسبقه رصاصة طائشة.

تتحطم الحروف على شفتيه فتخرج غمغمات غامضة يهمس بها لنفسه، ما يلبث ويعيد تشكيلها من جديد راويًا كيف غادرته عزة النفس مع انقباض الحال، وحمو الأسعار التى تنهش فى عظامه وتذكره أن الموت غريقًا أولى به من سماع صرخات أطفاله الجوعى، بينما يواصل حديثه متحسرًا على حاله، والتحمل الذى اعتزله فدفع به لمد اليد بالاستدانة من زملائه الأوفر حظًا، وأصدقائه تجار الطعوم بعد أن تضاعفت أسعارها من 2 إلى 20 جنيها للعلبة الصغيرة، التى لا تكفى لصيد لأكثر من يوم واحد.

 

لا تسعفه بساطته لتفسير ما آل إليه حال فى السنوات الثلاث الماضية، رغم امتلاكه كافة التصاريح الدائمة والموسمية، ملقيًا باللوم على أصحاب المصالح من أرباب المزارع السمكية العملاقة التى تستأثر بخير البحر، وتحرم صغار الصيادين حتى من لقيمات بسيطة تقيم أصلابهم، يستدرجه أصحاب النفوس الجشعة من مافيا الصيد الجائر بمشاركتهم صيد زريعة السمك وبيعها لأصحاب المزارع السمكية الضخمة برموز بسيطة، تجارة سهلة امتهنها الكثيرون للتحايل على سوء الأحوال، وباب خلفى يطرقه حيتان المزارع لمضاعفة حصتهم المسموح بها قانونيًا من زريعة الأسماك: البورى والقاروص واللوت، بموجب قانون الصيد 124 لسنة 83، فيغونه بالعائد المجزى الذى تدره عليهم تجارتهم السوداء والذى يصل إلى 2000 جنيه لـ«فنجان» واحد من زريعة الأسماك من نوع واحد، متعللين أن نضوب الحال شمل حتى مصدر رزقهم الأثم، فكثرة التنافس على صيد الزريعة خسف بسعرها كافة المقاييس بعد أن كانت تتراوح بين 7 إلى 10 آلاف نظير نفس الكمية، لكن نزاهته وعشقه للبحر يخرص صوت الجوع الذى ينهش بأمعائه وأسرته قبل أن يركن إليهم، مفضلًا الوقوع ضحية بين براثن تجار الأعضاء على تهديد استقرار المنظمة السمكية، ميراث أبنائه الوحيد والملايين غيرهم.

وفى إحدى المقاهى الشهيرة بكامب شيزار، تتبعه النظرات الناقمة وتتطارده الهمسات منذ تطأ قدمه مقهاه المفضل، وحتى يصل إلى طاولته المعتادة، والتى يلتف حولها عدد من أصدقائه ذوى الهيئات المهيبة، يبادرهم بسرد أحدث مغامراته فى صيد الأسماك العملاقة بصحبة عدد من معارفه وأصدقائه أباطرة الصيد وأصحاب قوافل المراكب الضخمة، ممن لايقف أمامهم عائق وتفتح لهم الرشاوى الأبواب الموصدة.

 

عكرت مغانم «ع»، صاحب المهنة المرموقة، لمئات الكيلو جرامات من الأسماك الطازجة صفو ماء المودة والألفة التى جمعته بأصدقائه القدامه ومعارفه من الصيادين بسطاء الحال، حتى تساقط الواحد منهم تلو الآخر مع كل جولة صيد يعود منها محملًا بالرزق الوفير.

تتطلع إليه الأفواه الجائعة فى دهشة، بينما تتعفف الأيادى التى جرت فيها شقوق الجفاف عن قبول عطاياه، فيما تأكل موجات الغضب المئات غيرهم ويعصف البغض بأوردتهم الناضبة من أثر الجوع، تلسعهم الغيرة وتنمو الكراهية جبالاً داخلهم، حتى اعتزلوه لتقتصر خلوته المستديرة على الصفوة من حاملى الألقاب.

 

يقف أحمد ذهب، خبير الصيد والمحكم السابق لمسابقات الاتحاد المصرى، يراقب مجموعة من الصيادين يصطفون فى حلقة، يتوسطها صينية الشاى والأكواب، جلسة سمر تجمع بين الصيادين هربًا من سوء الأحوال الاقتصادية، لا تلبث إلا وتتحول مغزى حوارهم مرة أخرى، يتبادلون الآراء حول البدائل المطروحة للتحايل على منع الصيد بنقل مراكبهم إلى موانئ خارج الإسكندرية لكن تكاليف النقل التى تتعدى 150 ألف جنيه ستقف عائقًا أمام هذا الحل أيضاً، وفقًا لما أوضحه «ذهب».

صيادون على باب الله، رمى الشباك إلى البحر وعودتها محملة بالخيرات أقصى فرحة يطمحون لها مؤخرًا، فجنون الأسعار يأكل ما تبقى لديهم من أمل فى عودة الحال إلى سابق عهده، فتكاليف صيانة المراكب والضرائب أفضت جيوبهم، ولا يتحصلون إلا على 250 جنيها شهريًا دعم، ودفعت بهم لرفع سعر بيع الأسماك.

يستعيد ذكريات مواسم منع الصيد فى الغردقة خلال فترة التبويض، التى لا تتعدى أشهر قليلة فيرثو لحالة الصياديين بالإسكندرية، مشيرًا أن التجربة الإماراتية فى تقسيم العام إلى مواسم صيد متباينة هو الحل الوحيد المتاح حاليًا، مشددًا على أن البحر مفتوح أمام الصيادين للصيد على طول الساحل الشمالى، ما عليهم سوى نقل مراكبهم الذى يكلف آلاف الجنيهات وفقًا لـ«ذهب»، بينما تظل أبواب المسئولين موصدة أمام تلك الأسئلة التى تحتاج لإجابات سريعة لأزمة يحتاج حلها لبدائل جديدة.