اغتيال المراجل البخارية
تركوها خاوية علي عروشها ودمروا كل ما فيها ، اغتالوا كوادرها الفنية النادرة الخراب والدمار
اصبحا أهم ملامحها، ليست إسرائيل من قامت بكل ذلك، وايضا لم يحدث ذلك في نكسة 67 ، ولم يستطع العدوان الثلاثي الفتك بها، انها شركة المراجل البخارية التي استطاع النظام السابق افسادها مع سبق الاصرار، ولقد فعل بها ما يعجز اعداء الوطن عن القيام به، لقد دمر هذا الكيان الفريد وافرغه من محتواه «خبراته وكفاءته وعمالة ومعداته» وبعد ذلك هدم منشآته التي تقدر بمليارات الجنيهات لاقامة منتجع سياحي بدلا من الشركة الوحيدة علي مستوي الشرق الأوسط المتخصصة في صناعة الغلايات البخارية وأوعية الضغط العالي وهي صناعة ذات أهمية قصوي للأمن القومي ، وهي نواة البرنامج النووي المصري، ولا توجد شركة مماثلة لها في المنطقة سوي شركة واحدة داخل الكيان الصهيوني، انه هجوم ثلاثي شنه رجال الاعمال والمسئولون وأصحاب النفوس الضعيفة للقضاء علي هذه الصناعة الوطنية.
وعشر دقائق تقطعها بالسيارة من ميدان المنيب حتي تصل إلي منطقة منيل شيحة حيث بقايا هذا الصرح الذي كان يسمي بـ «المراجل البخارية» فالحسرة والألم شعوران يتملكان أي مهتم بالشأن العام مع أول نظرة يلقيها علي الصرح الذي لم يتبق منه سوي سور لا يتجاوز ارتفاعه مترين ، وحول مساحة شاسعة من الأرض، تنتشر فيها بعض الحشائش، وقليل من بقايا البنايات الخرسانية التي تئن ألما وتشتكي حزنا لما وصلت اليه ، حتي ميناء الشركة الذي يقع علي النيل مباشرة تحول الي وكر للمدمنين، ورغم كل ما حدث لم يفقد العاملون بشركة المراجل البخارية الأمل في عودة هذا الصرح العملاق ، الذي كان إحدي ركائز الصناعة الوطنية في مصر، وزادتهم الثورة اصرارا ، فتقدموا بشكوي إلي رئيس مجلس الوزراء الدكتور عصام شرف، بهدف إعادة فتح الشركة لتمارس نشاطها وإعادة تشغيل الماكينات بعد اعادتها من الشركة التي تمتلكها عائلة «ساويرس» ولم يكتفي العاملون بذلك .. بل تقدموا ببلاغ الي النائب العام لمحاسبة المسئولين عن انهيار هذا الصرح العملاق وعلي رأسهم رجل الاعمال خالد محمد عبدالمحسن هلال شتا، رئيس المجموعة الدولية للاستثمارات، الذي قام بدور المدير التنفيذي لمخطط تدمير الشركة. وقد أنشئت شركة «المراجل البخارية» في الستينات بقرار من رئيس الجمهورية ، بمنطقة منيل شيحة بمحافظة الجيزة، علي مساحة 32 فدانا، تشمل «المصنع والميناء» الذي يقع علي النيل مباشرة وهما منزوعة الملكية .. وتم الاستيلاء عليها للمنفعة، مما يؤكد ان استخدامها يكون من أجل الصالح العام ، ونجحت الشركة بمعداتها والعمالة المدربة التي تعتمد عليها العديد من الصناعات القومية والحربية ومن انتاجها «قواعد مدافع الهاون لمصنع 63 الحربي، واجهزة تطهير الافراد للحرب الكيماوية، وأوعية الضغط للقوات البحرية وإنتاج يوافق صهر الصلب لشركة الحديد والصلب وحوائط تبريد أفران لشركة الدلتا والصلب وفرن صهر لحلوان للصناعات غير الحديدية، بالاضافة إلي انتاج أبراج تقطير 4 أمتار لشركة الاسكندرية للبترول، وايضا لشركة السويس للبترول، وعلب تبريدل «القومية للأسمنت» وفرن تسخين للطوب الطفلي.
وتعتبر «المراجل البخارية» هي الشركة الأولي في الشرق الأوسط التي جهزت بأحدث الاجهزة والمعدات لتشغيل الصاج السميك، وتصنيع الغلايات البخارية وأوعية الضغط العالي، كما قامت بتصنيع اجزاء من محطة كهرباء غرب القاهرة ، بالاشتراك مع شركة «بابكوك هيتاشي» اليابانية وقد اسندت إليها الشركات العالمية مثل «بابكوك هيتاشي» و«بابكوك » و«ويلكوكس» الكندية و«ستاندر كسيسل » الفرنسية وعمليات من الباطن لإنتاج عدد من غلايات البخار الخاصة بمحطات القوي بالاضافة الي تصدير مراجل سعات مختلفة لعدد من الدول العربية وقد حصلت الشركة علي شهادة «اللويذر» الدولية بقبولها من الهيئة العالمية كمصنع مراجل وأوعية ضغط ، طبقا للمستوي الأول في اللحام بالانصهار وبذلك اصبحت الشركة من الشركات العالمية في انتاج المراجل البخارية.
وتعتبر «المراجل البخارية» نواة البرنامج النووي المصري فهي الشركة الوحيدة القادرة علي انتاج أكبر قدر من مكونات هذا المشروع الحيوي والقومي الذي طال انتظاره ، فبخلاف الاستخدام التقليدي للمراجل يمكن ان تستخدم في صناعة غلايات صالحة لأن تتحول وقت اللزوم الي مراجل نووية، بحيث يمكن ان تصبح في المستقبل جزءا من وحدات مشروع نووي متكامل، ولهذا السبب فإن وجود صناعة للمراجل في أية دولة من الدول هو واحد من الاسباب التي تدعو تلك الدولة إلي الشعور بالقوة.
كما أن «المراجل» هي الشركة الفريدة والأولي والوحيدة في أفريقيا والشرق الأوسط المتخصصة في هذا المجال الحيوي، باستثناء شركة واحدة في إسرائيل لكنها لم تكن تضم نفس الكفاءات البشرية الموجودة في مصر.ورغم ذلك النظام البائد بجميع أركانه في تدمير هذه الشركة ، سواء بالاشتراك في اغتيال هذا الصرح، أو بالصمت عما يحدث ، ولم يمنعهم صراخ العاملين والبلاغات التي تقدموا بها ، والتي صاحبتها حملة إعلامية في العديد من وسائل الإعلام.. لكن لا بحياة لمن تنادي فيبدو ان التعليمات كانت أكبر من كل ذلك.
وقد بدأ مخطط اغتيال الشركة مع بداية التسعينيات حيث قام عبدالوهاب الحباك ـ وكان وقتها رئيسا للشركة القابضة للصناعات الهندسية، وقد سجن بعد ذلك في قضية فساد شهيرة، ومات داخل السجن.. قام بمنع المادة الخام ، وهي الصاج، عن الشركة، مما أدي الي عدم وفائها بتعاقداتها في الداخل والخارج، وتكبدها أول خسارة في تاريخها عام 1992 وهو العام الذي كان فارقا في تاريخ الشركة .. وفجأة وبدون أي مبررات بدأت تظهر حوادث انفجار الغلايات قبل خصخصة الشركة بعدة شهور، وقيل وقتها ان الانفجارات حدثت بسبب عيوب في التصنيع، أليس هذا السبب مثيرا للتساؤل والاتهام؟ كيف لشركة قدمت انتاجا مطابقا للمواصفات الفنية العالمية طوال 10 السنوات، ان تنتج فجأة وقبل البيع بعدة شهور انتاجا غير مطابق للمواصفات أو معيوباً إلا إذا كان هناك اهمال متعمد في مراحل الانتاج المختلفة في منتج بهذه الاهمية والخطورة ، وإلا يحتمل خطأ أو عبثاً مهما كان طفيفا؟... إن ماحدث كان مبررا لعمليات البيع وهو ما كشفه حوار عاطف عبيد رئيس الوزراء الأسبق مع جريدة الشروق بتاريخ 4/3/2011 مبررا بيع الشركة وانهيارها بقوله: ارجعوا
ويقول فاضل رضوان أحد العاملين السابقين بالشركة ان انتاج الشركة كان يغطي 90٪ من الانتاج المحلي .. ولكن تم تدميرها لصالح فئة معينة من رجال الاعمال بهدف انشاء منتجع سياحي عليها ويتمني رضوان عودة الشركة الي سوق العمل مرة أخري، مطالبا باسترجاع جميع الماكينات الخاصة بالشركة من مصانع «آل ساويرس» وجميع المستندات الفنية الخاصة بتكنولوجيا التصنيع.
وانتهي هذا السيناريو الهزيل الذي ارتسمت ملامحه عام 2008 بعد 14 عاما من بداية تنفيذ هذا المخطط وتخلله صراع بين العمال والمستثمرين الذين كانوا يمتلكون كافة الصلاحيات لتدمير هذا الصرح وكانت النتيجة النهائية فوز ساويرس بالمعدات وشتا بالأرض، والعمال الغلابة تم توريثهم لـ «آل ساويرس» بدون مقابل أو ضمانات وخسر الوطن صناعة استراتيجية ترتبط بالأمن القومي لمصلحة من لا نعم .... ؟! وهذا ما نتمني ان تكشفه التحقيقات في الايام القادمة، وتتم محاسبة شلة الفساد التي دمرت المراجل البخارية.\