عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حكومة السحل وعري الرجال

أي المشاهد اكتبها في هذه السطور؟ ومشهد «حمادة» المسحول عارياً والذي شاهده ملايين المصريين على شاشات التليفزيون لا يفارقني حتى الآن.

لم يكن حمادة صابر الهلالي المضروب بأحذية الشرطة والمسحول على أسفلت الاتحادية سوى عامل محارة بسيط الحال.. واحد من الناس الغلابة المعجونة وجوههم بالفقر واليأس.. لم يعرف «حمادة» بعد سنواته الخمسين سوى صمت المتعبين كان الرجل يقتسم كل يوم الرغيف المر مع زوجته وأبنائه الثلاثة.. يشرب معهم الدمع المخلوط بالماء والطين.. لم يكن «حمادة» من الثوار أو نخب الميادين جاء الى ساحة قصر الاتحادية من خلف أسوار الجوع.. أراد أن يتنفس هواء مصر المعبأ بقنابل الغاز والدخان.. أراد أن يكون انساناً آخر في وطنه المكبل بالمهانة.. أراد أن يصرخ مثل غيره، ويشكو حزنه الطويل بعد أن سئم السكوت.
دفع الفضول «حمادة» الى المكان الملتهب بالاحتجاج فالكل الآن يحمل في بلاده اسم ثائر.. اقترب الرجل قليلاً من سور القصر منكسراً وفجأة صرخ في ألم أصابته رصاصة خرطوش في قدمه.. سقط المسكين على الأرض وفر جمع المتظاهرين، لم يستطع «حمادة» الركض أخذ يترنح في خوف وإعياء شديدين، داسته بعض الأقدام، لم يلتفت الى سرواله الملطخ بالدماء وكأنه يعلم أنه سوف ينزع منه بعد حين.
نظر الرجل الى من حوله لم يجد سوى عسكر سود الوجوه، سود الملابس، سود الخوذ، سود الأقدام، سود الهراوات التي انهالت على رأسه وجسده الجريح.. حاول الجند أخذه عنوة لم تفلح محاولاتهم ضربوه وسحلوه على الأرض وفي كل سحلة كانت تنزع ملابسه قطعة قطعة.. انتابت الرجل ثورة على جلاديه أخذ «يعافر» معهم يدور حول نفسه مذعوراً كفأر في مصيدة.. كان يفتش عن مخرج ينقذه من هراوات وركلات الجند القاسية.. أسرف العسكر في الضرب والركل والسحل.. نزعوا ما تبقى من ملابسه الداخلية لم يبق على جسده العاري شىء يستر به عورته.. جرجره الجند، مسحوا بجسده العاري اسفلت الاتحادية وصرنا نحن المشاهدين عرايا مثله أمام العالم كله.
كانت رياض العري تلفح وجوهنا كلما تكرر المشهد المخجل على الشاشات.. ظل «حمادة» يصرخ ولا نسمع له صوتاً، فالأرض تحته

تكتم صرخته الخرساء.. حيَّر «حمادة» كل المصريين بروايته الأولى عن حادث الاغتصاب المأساوي.. قال الرجل: إن المتظاهرين هم الذين أصابوه بالخرطوش، وأن جنود الأمن أمسكوه ليسعفوه وعندما اكتشف أنهم خدعوه قاومهم حتى لفظ ثيابه كلها وبعد أن سلط الاعلام الأضواء على قصته وبادر أهله بالضغط عليه ليصرخ بالحقيقة نطق الرجل وأعلن العصيان وفضح الداخلية.
ولا أدري هل سألت النيابة حمادة كم مرة ضُرب بالعصى؟ وكم مرة رُكل بالأقدام؟ وكم مرة سُحل عارياً؟ وكم كان عدد الضاربين؟ وهل يتذكر من بينهم وجه جلاد قبيح؟ وهل سألته النيابة لماذا فضل السحل على الأسفلت بدلاً من الحشر في مدرعة الشرطة؟ وكيف أخذوه بحبل ود الى المستشفى بعد أن جرجروه بلا ثياب في ساحة القصر والقهر؟.. وهل سألته النيابة: لماذا صافح قادة جلاديه وأزاح عنهم جريمتهم الشنعاء؟ وكيف أسكتوه؟ وهل دربوه سريعاً على الذل والخنوع؟ هل وعدوه بالضلال والأماني الكاذبات؟ لم يكن حمادة صابر هو المسحول الوحيد في هذا الوطن فقد سبقته «ست البنات» التي سحلت وعقرت من قبل في التحرير، سبقه طابور طويل من المضروبين والمسحولين والمقتولين.. وما أتصوره أن «حمادة» لن يكون المسحول الأخير فوق أرصفة الشوارع والميادين ولن يكون المضروب الأخير بأحذية العسكر والجلادين ولن يكون الأخير الذي تدفن كرامته بين أشلائه.. لا تندهشوا من سحل «حمادة» عرياناً فنحن المصريين في زمن السحل وعري الرجال.