رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

وداعاً للقلب الذى عاشت فيه مصر

عجيب جداً ومحير هذا الشعب المصرى.. تراه يتثاءب ويبدو عليه النوم والوخم وإذا به يستيقظ فجأةوبكالم طاقته وعنفوانه ويفعل ما هوغير متوقع.. تراه يتبلد ولا يبالى ويبدو عليه الاحباط واليأس وإذا به وثاب ذكى محب لوطنه حباً يفوق الحد... تراه أحياناً متطرفاً فى فكره..

ديكتاتوراً فى رأيه متفرقاً وممزقاً إلى شيع وأحزاب.. ثم تفاجأ به متجانساً راضياً موضوعياً عائداً إلى قواعده وأصوله.. تراه على وشك الفتنة الدينية وكل طائفة متربصة بالأخرى أحياناً بالرفض والاعتراض وأحياناً بالتكفير والسب وأحياناً بالضرب والإيذاء ثم فجأة تجده وقد توحد وأصبح كتلة متماسكة متحابة متحضرة تعيش على مخزون رائع من القيم الإنسانية الموروثة،. فعلاً نحن شعب غريب كثير المفاجآت وآخر هذه التجليات المصرية كانت فى رحيل قداسة البابا شنودة.. حالة عامة من الشعور الحزين خيمت على المسلمين قبل المسيحيين وعلى كل رجال الدولة قبل رجال الكنيسة وعلى كل رجال ونساء الإعلام قبل شعب الكنيسة.. كان الصوت واحداً والمفردات واحدة.. الجميع يقول إنه أب للمصريين جميعاً كما قال العرب ؤنه كان بطريركاً للعرب جميعاً..
وفى زحام الأقباط خارج كنيسة البطريركية الذين تكدسوا فى شارع العباسية.. أخذت العائلات القاطنة بالقرب منهم ترسل لهم المياه والشاى وبعض المأكولات خلال وقفتهم التى طالت حول المكان الذى رقد فيه الأب المحبوب.. حتى سار شباب من الأقباط يحملون لافتات الحب رداً على مشاعر الحب التى تفجرت وفى كل شاشات الإعلام سواء إعلام الدولة أو الإعلام الخاص لم أجد من هو منافق أو مزيف المشاعر.. رغم ظهور الكثير من السياسيين والمرشحين المحتملين.. بل رأينا جميعاً حديثاً صادقاً من القلب، الحزن كان عاماً والمشاركة كانت حقيقية صادقة.. والرسائل من المسلمين للأقباط على الموبايلات توالت ومن الأقباط للأقباط والجميع يقولون «نعزى أنفسنا».. فجأة تجلى الشعب في حالة رائعة من التحضر والتوحد والصدق.. ربما لو كان أحد قد سألنى قبل هذا الحدث عن توقعاتى للعلاقة بين مسلمى وأقباط مصر لكنت تكلمت عن توقعات مؤسفة وعن مستقبل كنت أراه أسود ولكن جاء هذا الحدث رغم ما سببه من أحزان مفجراً للأمل ومبشراً بالطمأنينة فى أن المصريين قادرون على قلب السحر على الساحر..
وربما لشخص البابا نفسه أثر فى هذا الالتفاف حول الوطن الذى عشناه فى الأيام السابقة فهو صعيدى فى طباعه حاد شجاع فى مواقفه حتى وإن لامه البعض على قراراته السياسية لكنه فى قرارة نفسه سيكون معجباً من موقفه من القدس وفلسطين ورغم أن البعض قد عارضوه فى منع ذهاب الأقباط الى القدس إلى أن يذهبوا إليها مع بعض مسلمين ومسيحيين لكن الموقف كان رائعاً.. وكانت علاقته بياسر عرفات «حميمة» حتى اللحظات الأخيرة فى حصار أبوعمار أيام ضرب جنين وغزة..
وعندما سألوه ذات مرة عن أسباب سفره الدائم الى الأقباط فى المهجر قال:«إننى أقابلهم لأكون حبل وصالهم بالوطن فهم عندما يدخلون إلى كنيسة قبطية فى أقاصى الأرض فكأنهم قد جاءوا إلى مصر».. كان بالفعل بوصلة التوازن والحكمة والعقل كان يحدث الشباب فى مصر والخارج ويدعوهم لعدم الاستماع الى

دعوات التحريض والفتنة.. ورأيت حديثاً له بعد أحداث ماسبيرو الأخيرة عندما هتف له الشباب القبطى داخل الكنيسة ضد العسكر وقد تجهم ومنعهم من هذا الهتاف وقال: «لم نعرف بعد من هو الفاعل ولا تصدقوا من يدعون المعرفة»..
قال منذ سنوات: «إن مصر وطن يعيش فينا» وقال منذ شهور مقولة القمص سرجيوس قمص ثورة 1919.. «إن كان أقباط مصر سوف يلجأون لطلب الحماية الدولية من الأمريكان فأنا أقول ليمت كل الأقباط وتعش مصر حرة»...
هذا المفهوم الوطنى هو ما نتمنى أن يسكن فى قلوب شباب مصر وأهلها.. ولو نظرنا نظرة هادئة لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى لم يرسل رسله لتبشر بالأديان إلا عندما وجدت الأوطان واستقر البشر واخترعوا القراءة وحروف الكلام حتى يكونوا قادرين على استقبال كلمات الله عز وجل.. أى أن الوطن قد وجد وتشكل البشر فىأمم استعداداً لاستقبال الرسل والأنبياء القادمين بكلمات الإله الواحد.
رغم أن الحدث حزين إلا أنه أزال الأتربة من فوق كيان الشعب المصرى فظهر مبهراً.. صحيح أن بعض المحاولات الرخيصة لصنع الفتنة قد حدثت وقال أحد أدعياء الدين كلمات مهينة وسخيفة وأبعد ما تكون عن كلمات الدين ورجاله.. إلا أنه قد فشل فى تعكير صفو حالة الاندماج النبيلة التى سادت فى مصر فى الأيام القليلة الماضية والتى نتمنى جميعاً أن تنتصر على كل ماهو مفتعل وخبيث وساذج لشق الصف والروح.
مات البابا شنودة وهو قلق وخائف وأحيان على الوطن.. وترك وصاياه بالحب.. والحب فقط لكل من كان له عقل وقلب.. حب مصر والمصريين والأهل تحت سماء حب الله الواحد الذى نعبده جميعاً.
وخرج النعش الأبيض يحمل الجثمان الطاهر محمولاً على أكتاف رجال الشرطة العسكرية.. رجال مصر وأبناء جيشها العظيم الذى نظم وأمن وتولى كل شئون الجنازة داخل الكنيسة وخارجها وطوال الطريق الى وادى النطرون حيث استقر البابا فى مرقده الأخير.
وداعاً المواطن «البابا شنودة» الذى جمع المصريين بإحساس حقيقى رائع والذى أكد فى وداعه أن الأمة المصرية عنصر واحد والذى عاشت مصر وطناً فى قلبه.