رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مصر بين الثورة والانقلاب

هل ما حدث  "ثورة" أم "انقلاب" على الحكم؟

لابد لكي نجيب على هذا التساؤل أن ننبه بداية، بأن محرك التغيير ليس هو المعيار الصحيح للحكم عما إذا كنا بصدد ثورة أم انقلاب، فلا يشترط أن يقوم بتحريك الأحوال مجموعة عسكرية لكي نطلق على حركتها انقلاباً، في مقابل قيام الجماهير بالمهمة لكي نطلق عليها توصيف ثورة، فالفارق بين التوصيفين يذهب لأعمق من هذا السطح الظاهري، إلى حجم وعمق التغيير المستهدف.
لدينا على السطح أو المستوى الفوقي نظام حكم يسيطر على دولة تدير شؤون البلاد، ولدينا في القاعدة أو البنية التحتية شعب يمثل الرحم والتربة الولادة والحاضنة للبنية الفوقية، عبر نظم وعلاقات وعادات وتقاليد وأعراف وقوانين. . العلاقة بين المستويين عضوية، بحيث نستطيع القول أن كلاً منهما مرآه للآخر، وحامل لجيناته الوراثية، ففكرة سيطرة نظام حكم مفارق لشعبه أو قاعدته مستخدماً القهر، تبدو تنظيراً مجرداً يندر أن نجده على أرض الواقع بصورة تامة ونقية، حتى في حالات تعرض أمة لغزو من طرف خارجي، يفرض عليها نظام حكم مفارق، كما حدث لدول أوروبا الشرقية بالغزو السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا لن نستطيع أن نبرئ تماماً شعوب تلك الدول من استناد الحكم الذي تمكن منها لما يقارب نصف قرن، إلى عناصر كانت موجودة أو تم استزراعها في ثقافة تلك الشعوب، رغم أن هذا المثال يعد بالفعل نموذجاً للنظم المفارقة لقاعدتها، فهناك  تفاوت في نسبة انتماء البنى الفوقية الحاكمة لقاعدتها، باختلاف الأحوال والظروف وطبيعة الحكم. . وحسماً للإطالة في تلك القضية سنزعم هنا أن النظام الذي حكم مصر منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي وحتى الآن، هو ابن للبيئة المصرية، ومرتبط بها عضوياً أشد ما يكون الارتباط، خاصة لو اتفقنا على أن استخدام القبضة البوليسية لاستمرار الحكم لستة لعقود لا يقطع ذلك الارتباط، فالقهر لا ينجح كسياسة ما لم تكن القاعدة على استعداد لأن تُحكم عبر القهر، ولن نقول أننا نجد أحياناً ثمة شعوب ثبت بعد تحررها أنه لا يصلح لحكمها غير القهر والاستبداد!!. . لهذا ليس من العبث أن نقول أن "الحكام مرآة شعوبهم"، أو أن "الشعوب تحصل على الحكومات التي تستحقها".
عودة إلى "الانقلاب" و"الثورة" نقول أننا يمكن أن نصطلح على أن "الانقلاب" تغيير محدود بالبنى الفوقية أي نظام الحكم، ويمكن أن يقتصر على تغيير أشخاص الحاكمين بشخوص جديدة، تعمل على ذات النسق والمنهج، وتستخدم نفس نوعية العلاقات والقوانين التي كانت سائدة، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك في الانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث. . وقد يتطرق التغيير للنظام ذاته، فيستبدله بنظام مختلف بدرجة أو بأخرى، ليحكم القاعدة الجماهيرية ذاتها، بما هي عليه من ثقافة وسلوكيات وعادات وتقاليد وقيم ومقدسات وثوابت، ولا نزعم بالطبع أن ثبات القاعدة الذي افترضناه سيكون تاماً، فالتأثير المتبادل بين القاعدة والقمة لا يمكن الوصول به إلى الانقطاع أو الدرجة صفر، كما لا ندعي وصوله في حالة من الحالات إلى درجة التمام، أو إلى درجة مرونة فائقة، تجعل التغيرات في أي من المستويين تنعكس تلقائياً كاملة على المستوى الآخر. . سوف تتغير القاعدة إذن تأثراً بما حدث من تغيير على القمة في حالتنا هذه، لكن حجم التأثير سيكون بالطبع في حدوده الدنيا.
أما "الثورة" فيمكن أن نصطلح على أنها تلك التغييرات الشاملة، فتشمل نظام الحكم وحياة الناس وثقافتهم وسلوكياتهم وقيمهم، لتنتج لنا وضعاً أو حياة جديدة كل الجدة، وهو ما لا يمكن تحققه لحظياً فور وقوع فعل الثورة، وإنما بعد تفاعلات مجتمعية ساخنة وشاملة لكل مكونات الأمة وكافة مناحي حياتها، لنجد أننا بعد حين قد دخلنا في عصر جديد كل الجدة، لتنطلق مثل هذه الأمة مفارقة ماضيها، لتحيا حياة لا تحمل من ملامح حياتها السابقة إلا النذر اليسير، والذي يختلف حجمه ونوعيته بالطبع من حالة إلى أخرى، وأفضل مثال لنا هنا هو الثورة الفرنسية، التي امتدت تأثيراتها إلى العالم أجمع، ويصل تأثيرها في الزمن إلى يومنا هذا.
لا يهم إذن للتفريق بين "الانقلاب" و"الثورة" طبيعة القوى المحركة للتغيير، ففي حالة حركة ضباط يوليو 1952 الذين لقبوا نفسهم بالأحرار كان المظهر انقلاباً عسكرياً، لكن التغيير الذي شهدته الحياة المصرية على أيدي هؤلاء كان جذرياً بدرجة كبيرة، بالطبع بغض النظر عن تقييمنا السلبي بعمومه لذلك التغيير. . هي وفق رؤيتنا هذه كانت "ثورة"، حتى لو كان دور الجماهير بها هو دور المتلقي الخانع أو حتى المقهور.
هكذا يمكننا القول أن الفارق بين "الإنقلاب" و"الثورة" هو فارق كمي وليس كيفياً، بمعنى أن كليهما فعل تغيير، وكلاهما يحدث تغييراً كيفياً أو نوعياً في حدود مجال تأثيره، لكن إن اقتصر التغيير على البنية الفوقية، التي هي نظام الحكم، يحق لنا اعتباره "انقلاباً" على السلطة ونظامها، وإذا ما امتد ليشمل القاعدة الجماهيرية، فإنه عندئذ يكون "ثورة" على نوعية الحياة برمتها.
نأتي إلى تسونامي 25 يناير 2011، حين قامت الجماهير باقتلاع نظام الحكم العتيد، ووضع رموزه خلف قضبان السجون. . ما سوف يحدد تصنيفنا له كثورة أو انقلاب هو حجم ما سوف يترتب عليه من تغيير، أي على ما يتلوه من أحداث وتغييرات، وليس على أساس نوعية المحركين لهذا التغيير.
لو بدأنا بتأمل ما يحدث وسيحدث بخصوص البنية الفوقية أي نظام الحكم، ذلك بعد أن تم بالفعل الإطاحة بأغلب شخوص الحكام السابقين، ونتساءل إلى أي درجة نحن في طريقنا لنظام حكم جديد يختلف عن السابق؟. . هل سيكون التغيير فقط في الخطوط العريضة والشهيرة جماهيرياً كشروط الترشيح لرئاسة الجمهورية وعدد فترات الرئاسة وسلطات رئيس الجمهورية؟. . أم سيمتد لتغيير طبيعة العلاقة بين الجماهير والسلطة، والكيفية التي سيؤدي بها الحكام الجدد لمهامهم، بل وطبيعة هذه المهام ذاتها، وما إذا كانت مرتبطة عضوياً بمصالح القاعدة، أم ستكون معلقة في سموات الأيديولوجيا أو العقيدة الدينية مثلاً؟. . نستطيع القول بقليل من التجاوز أن أغلب تلك التساؤلات سيجيب عليها حجم الفارق بين الدستور القديم، وذلك الدستور المنتظر.
لو أتينا إلى المستوى

التحتي، القاعدة الجماهيرية بامتداها الديموغرافي وعمقها الثقافي والسلوكي والقيمي، لنستدل على حجم التغيير المتوقع فيها، والذي سوف يكون له الحسم في تحديد ما إذا كنا بإزاء "ثورة" أم "انقلاب"، نجد أن النتائج المتوقعة المنظورة حتى الآن متواضعة للغاية..  فمن ناحية الامتداد أو التوزيع الجغرافي لمن شاركوا واستشعروا الثورة، لا يتعدى الأمر القليل من المدن الكبرى، فيما بقيت الكتلة السكانية الأكبر في أغلب المدن وكل الريف خارج الموضوع تماماً، وإذا ركزنا على الأقلية الناشطة من الطبقة الوسطى في المدن، والتي هي عماد التغيير في غالب الأحوال، سنجد أن من شاركوا بالثورة يمكن تصنيفهم كالتالي:
قادة التحرك من شباب الفيسبوك المستنير والساعي والمؤهل لتغيير حقيقي وجذري في سائر مناحي الحياة بحثاً عن مستقبل أفضل، وهؤلاء ينتمون فكرياً وروحياً إلى الثقافة السائدة في عصر العولمة، ولا يربطهم بالثقافة المحلية السائدة غير التمرد والرفض، وهم على أعلى مستوى من التأهيل العلمي، كما يشغلون وظائف مميزة النوعية والعائد.
جموع من الشباب سار مع الثوار، ولم يعن له مطلب التغيير أكثر من التخلص من حكم يسمع أنه فاسد ومهيمن، وربما أيضاً الحصول على وظيفة توفر له حياة كريمة، لكنه لم يسبق له التفكير في أي تغيير في رؤيته لذاته وللحياة، ويندرج ضمن هؤلاء أغلب من شاركوا من عامة الأقباط، وهؤلاء جميعاً مؤهلون للالتحاق بأي مسيرة وفي أي اتجاه، بما فيه اتجاه التطوير عبر ثورة شاملة، بالطبع ببعض الجهد التنويري والحشد الجاد، بذات درجة إمكانية انقيادهم من قبل معسكر الجمود القديم.
جماعة الإخوان المسلمين والسلفيون الذي التحقوا بالثورة في نهايتها، وهم أهم قوى وركائز القديم، الذي كان من المفترض استهدافه بالتغيير، من قبل أي "ثورة" حقيقية يؤمل منها الانتقال بمصر إلى حياة جديدة ومختلفة، عبر تغيير الواقع في البنية التحتية.
هؤلاء الأخيرين هم المعضلة والعقبة الكبرى، والمحدد في نفس الوقت لطبيعة ما سيترتب على تحرك 25 يناير وحجمه، وما إذا كان سيعد "انقلاباً" أم "ثورة":
*
في حالة سيطرتهم على مقاليد الأمور، وإحداثهم تغييراً في وجه الحياة بمصر، يمكن وفق استعراضنا هذا اعتبار ما يحدث "ثورة"، كما سبق وأن اعتبرنا حركة ضباط يوليو "ثورة"، وإن كان يمكن من حيث الموضوع اعتبار أن هذه "ثورة مسروقة" من أصحابها الحقيقيين، الذين حددوا مطالبهم منذ البداية، بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وهؤلاء المتوقع سيطرتهم ليسوا أهل ذلك، وإن كانوا أهل المضاد له، أهل هيمنة وتسلط عوضاً عن الحرية، وأهل ظلم للأقليات ولكل مخالف بدلاً من العدالة، وأهل انتهاك لإنسانية الإنسان عوضاً عن الكرامة الإنسانية. . لنا أن نتوقع بالطبع تغييرات عميقة في القاعدة أو البنية التحتية للأمة المصرية في هذه الحالة، لتتحرك مصر اقتراباً من نموذج إيران أو أفغانستان، لتكون بحق "ثورة"، لكنها "ثورة" سقوط أو ارتداد للخلف، فحكم القيمة لا ينتقص من صحة حكم التصنيف.
*
الأغلب الذي نتوقعه، وأخاف أن أقول نتمناه تحاشياً للأسوأ، هو عدم تمكن تيار الإسلام السياسي بشتى أجنحته من السيطرة على مقدرات البلاد، لكنه إزاء ضآلة وليونة وتراخي التيارات الليبرالية وتشرزمها، تبقى جماعات اللإسلام السياسي هي الأكثر بروزاً في الساحة، لتمنع بجمودها وتعصبها محاولات تطوير الثورة، أو ما يمكن تسميته عملية "التثوير"، لتظل البنية التحتية هكذا على حالها. . قد تتقدم أو تتدهور قليلاً، لتبقى الصورة العامة أن الحال باق على ما هو عليه.
هكذا وفي ضوء بقاء القاعدة المصرية بالمجمل على أغلب حالها من قيم وثقافة وعلاقات وسلوك، سيكون أي تغيير ولو إلى الأفضل في البنية الفوقية محدود التأثير، فقط بحجم المتوقع من التأثير الحتمي والتبادلي بين القاعدة والقمة، ونكون قد ابتعدنا كثيراً عن توصيف "ثورة"، لنقترب أكثر من توصيف "انقلاب"، ومن جهة أخرى لابد أن نتوقع مادام النظام السابق كان يعتمد على نفس المفردات المجتمعية، أن يأتي الاختلاف بين النظام الجديد والنظام القديم في حدوده الدنيا، أي سيكون الأمر في حدود الإصلاح وليس التغيير، مهما ارتفع صوتنا بصيحات إسقاط كامل للنظام.