رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

أنقذوهم قبل أن ينفجروا فى وجوهنا

كانت دوما ملامح وجهها الصبوح كالبدر مختفية تحت كم من الأوساخ والأتربة التى انسالت أيضا على ثوبها الذى كان يوما جديدا، فتتوارى معها ملاحتها التى وهبها لها الله مع طبيعة الريف النقية التى تسبغ على بناتها جمالا مميزا، لم تفلح نصائحى مع أمها ولا أبوها حارس العقار الذى كنت اقيم به قبلا فى مدينة الفسطاط بمصر القديمة فى ان يهتموا بنظافتها هى واختها الصغرى ولو قليلا، فلم يقتنعوا أبدا أن الفقر أو الحاجة لا تعنى «القذارة» وكانت علتهم عدم وجود وقت لأنهم «هلكانين» فى قضاء مطالب السكان، وأن البنتين لا تتوقفان عن اللعب فى تراب الشارع، فكنت بين وقت وآخر أخرج عن الكلام للفعل، فآخذ البنتين لشقتى، وأمارس معهما مهام الامومة، فيتبدى لى وجههما سبحان الله كالقمر.

وتنبهت أن البنت الكبرى فى سن المدرسة، وسألت ابوها، لماذا لم يلحقها بمدرسة الحى، وكانت مدرسة عامة متواضعة، فتردد قبل ان يقول لى إنه لا يرغب فى هذا، لانه سيلحقها لتخدم بأحد بيوت الجيران، حيث تلح عليه احدى السيدات فى ان تساعدها البنت فى قضاء بعض أعمال النظافة، راعنى ما قاله رغم انه ليس بجديد فى عالم هؤلاء البسطاء النازحين للقاهرة للعمل كحراس عقارات أو فى أى أعمال أخرى متواضعة، ووجدتنى احتد عليه فى غلظة محذرة إياه أن يفعل ذلك، ثم ظللت ألح عليه كلما شاهدته ان يلحق البنت بالمدرسة، حتى عاد الى ليخبرنى أن المدرسة رفضت قبولها لانها ابنة بواب، وقال: إن نسبة لا بأس بها بالمدرسة من أبناء البوابين، وادارة المدرسة لا ترغب فى ان يضاف اليها المزيد، لأن سمعتها باتت غير مقبولة وفقا لهم، واطلق عليها أهالى الحى بأنها «مدرسة البوابين»، وأحجم بعضهم عن إلحاق اولادهم بها، وفضلوا مدارس أخرى بعيدة.
كان يقول كلماته بأسى وانكسار شديد، أشعرنى أنا أمامه بالصغر والتضاؤل، لأننا كشريحة منحها الله بعض النعم تتنكر لشريحة حرمت من هذه النعم، ولاننا نرفض أن نأخذ بأيديهم للخروج من دائرة الجهل والفقر، ونستغل حاجتهم وندوس عليهم ليظلوا دوما خداما لنا هم وأولادهم، رأيت بعين خيالى الطفلة الصبوحة وهى أكثر اتساخا تخدم بالمنازل، تنتهك آدميتها ثم جسدها على أيدى العابثين والطامعين فى بيوت الخدمة، رأيتها تتحول الى كيان آخر وحشى يحرب فى بنية مجتمعنا لا ينفعه، تتحول الى قنبلة موقوتة شأنها شأن أولاد الشوارع، لتتفجر فى وجوههنا فى أى لحظة، وحسمت امرى، قلت له بل ستدخل المدرسة.
أعفيكم من ذكر الجدل الطويل الذى دار بينى وبن الادارة حول حق كل طفل فى التعليم، وحول المساواة، وعدم العنصرية، والذى تصاعد منى الى حدة التهديد والوعيد وتصعيد الامر لوزير التعليم مع المسئولين بالمدرسة امام تمسكهم بالرفض، واستغللت لأول مرة كونى صحفية لفرض أمر هو حق كفله الدستور والقانون لكل مصرى، بإدخال البنت المدرسة، وتم قبولها على مضض وكره منهم تحت الخوف من فضح الامر، ولم تتحرج الادارة من ان تطلب منى تقديم معونة للمدرسة لقبول البنت أملا فى تعجيزى عسى أن أتخلى عن موقفى، وبالطبع هم لا يقبلون أموالا وفقا لقواعدهم، بل قبلوا مقعدين ومكتباً كانت فائضة لدى لحسن الحظ، ودخلت البنت المدرسة.
أمر على بيتى القديم بين وقت وآخر، أراها نظيفة الوجه والملبس، تجلس على سلم العقار بيدها كراسة تكتب الواجب المدرسى، واذا ما رأتنى، هرعت الى تحتضنى فى حنان غريب، وأسألها «عايزة تطلعى ايه» تقول بثقة «دكتوره»، فتجتاحنى سعادة أتمنى أن يشعر

بها كل مصرى، وأحمد الله لأنه أكرمنى بما فعلته لأجلها، مضت على الواقعة خمسة أعوام، وألحت علي ذكراها بشدة وأنا أطالع هذه الرسالة التى وصلتنى من عدد من حراس العقارات فى الهضبة الوسطى بالحى الرابع بالمقطم.
فقد خصصت محافظة القاهرة قطعة أرض فضاء لبناء مدرسة عامة مجانية لاستيعاب ابناء البسطاء وابناء غير القادرين على دفع نفقات المدرسة الوحيدة الخاصة الموجودة هناك، وقام حى المقطم بتسليم قطعة الأرض واخلائها الى هيئة الابنية التعليمية على امل ان يتم البناء، وكان من المفترض ان المدرسة اكتملت لتستقبل المدرسة تلاميذها فى العام الدراسى الحالى .
إلا أن المثير فى الأمر أن هيئة الابنية التعليمية «استخسرت» أن يتم بناء مدرسة عامة لصالح ابناء البسطاء، وقررت دون مبرر تعطيل عملية بناء المدرسة وترك الأرض فضاء، وثارت التكهنات حول السبب، ويقول الأهالى: إن التعطيل يأتى لصالح المدرسة الخاصة الوحيدة بالحى، والتى تتقاضى آلاف الجنيهات عن كل طفل، وهو ما لا يستطع بالطبع أى أب بسيط ان يدفعه، وبالتالى أمامه خياران، إما أن يسرب طفله من التعليم ليلحق به فى المستقبل كبواب أو أى شىء آخر لا مستقبل له فى الحياة ولا أهمية فيضيع كما يضيع الملايين من ابنائنا، او يتحول الى طاقة عاطلة وقنبلة موقوتة تستقطبها أيادى الشر فى بلدنا لتخلق منه مجرما او إرهابيا، ويصرخ البسطاء فى الحى الرابع بالهضبة الوسطى، لان بعضهم يضطر الى إرسال اطفاله لمدارس بعيدة جدا عن المنطقة حيث لا مواصلات ولا أمن، ويسير الاطفال الصغار بأجسادهم النحيلة حاملين كيلوات الكتب على ظهورهم ليعبروا الطرق الوعرة فى المقطم سائرين أيضا كيلوات من الامتار للوصول الى المدارس البعيدة العامة، أو قد «يتشعلقون» على أبواب ميكروباص لا يحملون أجرته، أو ينحشرون فى عربة نصف نقل من تلك التى تتحول الى تاكسى للتلاميذ بهذه المناطق، ليتعرض منهم من يتعرض لخطر الموت أو الاصابة أو التحرش.
وأوجه صرخة الأهالى إلى وزير التعليم، والى هيئة الابنية التعليمة، بل الى الرئيس السيسى نفسه، عسى ان يتم التحرك لبناء المدرسة وإنقاذ ابناء البسطاء من الجهل ومن عناء وخطر الطرق للمدارس البعيدة، أنقذوهم، مدوا لهم يد العون والرحمة، يد الوطنية المصرية، ساعدوا هؤلاء قبل ان ينفجروا فى وجوهنا كمدا وحقدا وإرهابا، اللهم ما بلغت اللهم فاشهد.