رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

فيها حاجة حلوه ..حاجة حلوه دافية

اسير فى شوارعها الباردة ، تسلعنى قطرات المطر الذى لا ينقطع معظم ايام العام ، تجول عينانى على مساحات نهر الماص وبحر الشمال والبواخر العملاقة تتملق السحاب ، ابحث عن زوارقنا الصغيرة تتهادى فى دلال على سطح النيل ، عن وجه صياد اسمر يشد حبال الشبكة ، تساعده امرأته وعينها المكتحلتين بسمار الشمس تناجى الرزاق ، بجانبها طفل متوهج البشرة نحيل ، وابتسامة تنجلى على وجوه الثلاثة حين يخرج الزرق الفضى متراقصا بين عيون الشبكة .

اجول فى شوارعها يصفعنى الريح والفراغ ، وانا ابحث  عن وجوه الاقارب والصحاب حين التقيهم صدفة فى شوارع حبيبتى ، فتمتد الايادى الدافئة بالسلام والابتسامة تسبق العناق ، فلا اجد سوى وجوه جامده تسير هرولة فى عجالة لا تلفت الى وجوه الاخرين ، ووجوه اخرى ملتصقة فى واجهات الفتارين الزجاجية ، تتأمل الموديلات والصرعات العارية .

اجول فى شوارعها وليالى احب الشهور لنفسى تطرق الابواب " رمضان " ،  ابحث فى مساحات الطرقات الممدتة ، وفى اسطح المنازل المنحدرة الاسقف المنحنية للمطر والريح ابحث على مصباخ مضئ ، عن فانونس ،عن اوراق زينة تفنن فى صنعها الاطفال وعلقوها وسط صيحات الفرح فيصدمنى الفراغ والظلام ، ومحلات اغلقت ابوابها منذ السادسة مساء ، لتجبر سكان المدينة على افراغ الشوارع قبل الظلام ، و الجلوس خلف شاشات التلفاز جانب من الليل كالاصنام الجامدة بلا حياة .

ابحث عن فانوس رمضان فى محلات العرب ، المصريين ، المغاربة او حتى بمحلات الاتراك ، فاجدها فوانيس غريبة الاشكال غير فانوسى المعتاد ، تغنى بلغات ليست لغة امى ، يزداد شعورى بالغربة والحنين اليك حبيبتى .

اقلب فى شغف الفضائيات العربية ، ابحث عن وجه فضائيات مصر ، استطلع عن بعد الهلال ، يرقص قلبى مع ثبوت الرؤيا ، غدا اول ايام رمضان فى مصر ، اما هنا ، فرمضان غدا او بعد غد ، وفقا للجاليات العربية ، فكل جالية تتبع بلدها ، ولم يتفق المسلمون غالبا فى يوم الرؤيا ، فكنت اختار رؤيا الهلال بمصر ، واعفى نفسى من التخبط هنا او هناك بين الجاليات ، ويزداد شعورى بالغربة .

تطول ساعات الصيام ، والشمس الغائبة طوال النهار بهولندا يحلوا لها البقاء حتى التاسعة مساء ، ليتأخر الغروب ، احاول تخليق الاجواء ، لاستعادة الذكرى واللمة ، التمر واللبن ، الخشاف اطباق الملهبية  ، الكنافة المصرية الجاهزة او المغربية ، املأ المائدة ، ويغيب الرفاق ، وتغيب وجوه الصحاب  ويضيع من ايام رمضان معان جميلة واحساس لا يشعر بفقدانة الا من عاصر الغربة وعاش رمضان فى بلد اوروبى بعيدا عن معشوقتى مصر .

ابحث عن مسجد قريب لاداء صلاة المغرب ، واهرول تحت المطر والبرد الى محطات الترام لاصل الى المسجد البعيد ، واعفى نفسى من صلاة التروايح بالمسجد واقضيها بالبيت خشية تعرضى لاعتداء ما ، وانا عائدة فى الظلام مع افراد اسرتى من شاب يمينى متطرف ، او مخمور او موتور ممن ينتشرون فى الظلام كالخفافيش .

اعوام طويلة ، تساقطت فيها اهم واجمل اوراق العمر فى المهجر ، فى المنفى الاختيارى .. الاجبارى ، الذى فرضته على الحياة بهولندا ، وهاانذا اعود ، الى رمضان الحقيقى ، صوت الاذان بالمساجد التى غابت عن اذنى طويلا والمحظورة بفعل القوانين العنصرية المغلفة بشعارات الحرية والديمقراطية ، اعود الى صلاة التروايح ، الى طبق الفول فى السحور وطعم التوابل والمخلل ، الى لمة الصحاب وصوت المدفع الذى افتقدته طويلا ،  الى الوجوه الطيبة المسالمة المجتمعة حول موائد الرحمن ، تلك الموائد التى لم يعرفها الهولنديون قط ، وادخلها المسلمون فى المساجد وفى مراكز اتحادات الجاليات الاسلامية والعربية ، ليعلموا العالم الغربى كيف يكون الكرم الاسلامى  .

حين تزور هولندى فى بيته ، يقدم لك بالكاد كوب من الشاى او فنجان من القهوة مزينا بقطعة واحدة من البسكويت

او الحلوى ان كان يتسم بالكرم ، وبالطبع لا يلح عليك فى الدعوة ، وان رفضت لاول مره دعوته فلن يكررها ، و لا يمكنك ان تزوره بدون موعد مسبق يسجله فى اجندته قبلها باسابيع ، وان دعاك الى تناول الطعام " يادى الهنا" لو تجاوزت العزومة قطعة من اللحم وبجانبها البطاطس المسلوقة او المحمرة زيادة فى الكرم ،  بجانب كوب الحساء المعلب المقزز الطعم ،  لذا كانت موائد الرحمن بمساجدنا فى هولندا نقلة نوعية ثقافية هائلة فرضناها على مجتمع غربى ،  لا يعرف من الكرم الا اطرافه ، نقلة ثقافية لا يزالوا يحسدوننا عليها ، رغم ان موائدنا كانت ولا تزال تتسع لدعوتهم لمشاركتنا طعام  الافطار ، لنؤكد لهم  ان  التعددية الثقافية والاندماج فى مجتمع اوروبى ليست مجرد شعارات او مزاعم فى مجتمع يرفض اصلا كل ما هو مسلم ويتخوف منه فى فوبيا لا مبرر لها .

اعود اليها ... اليكم ، بلدى فيها حاجة حلوه ، حاجة حلوه دافية ، والله انها اجمل بلد فى العالم رغم كل ما فيها ، وشعب مصر اعظم شعب فى العالم ، فقط اعطوه الاسباب ليكون عظيما ، ازيلو عنه تراب الهموم والفساد ليعطى ، ليبرز الكنز المكنون بداخله ، حتى البلطجى والمجرم منهم ، والله لو توافر له اقل القليل ما سرق وما حمل سلاحا ، البسطاء يسرقون ليأكلوا ، وانا لا التمس لهم عذرا ، ولكن لا عذر لمن سرقوا مصر وهم شبعانين وبطونهم مليئة بالكافيار ولحم النعام .

سيعود المصرى الى اصله الكريم ، مصرى زمان ، حين كانت الجدات تترك ابواب البيوت مفتوحة فى امان ، وحين كنا ننام ملء العيون لا نخاف لص او هجام ،  ستعود مصر بجمالها ودفئها وروعتها ، وانا اراهن على اصالة المصرى ونخوته ووطنيته ، اراهن بكل سنوات الغربة التى قضيتها فى ذلك البلد البارد ، بان مصر ستكون اجمل بلد فى العالم ، ولكن صبرا صبرا ، وليعمل كل منا فى مجاله بكل الحب والعطاء ، صبرا صبرا ، جاء شهر الصفاء والنقاء ، جاء شهر رمضان ، وعلينا جميعا ان نستثمره لنقف وقفة جادة مع النفس ،  مع الذات بعودة الى الضمير ، الى الله ، عودة ستكون ابدية ان شاء الله لكل مصرى اصيل ، لا تنتهى بنهاية هذا الشهر الكريم ، فمصر فى حاجة الينا جميعا ، الى ضمائرنا ، الى سواعدنا ، الى حبنا وعطاءنا ، فكم اعطتنا وستعطينا ، وكل عام وانتم اهل بلدى بالف الف خير وسلام .