رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

معشوقتى وسجون الداخلية المفتوحة

القاهرة.. حين كانت.. معشوقتى !، لشوارعها شبق خاص فى نفسى، ذكريات تجعلنى أغوص فى زمن الشباب الذى كان، منذ ربع قرن من الزمان، حين كنت أسير مع نسمات المساء من حى المنيرة مقر الوفد القديم أو من شارع رمسيس مقر نقابتنا، الى حى المنيب حيث كنت أقيم فى شقة صغيرة احتضنت خطواتى الأولى لعالم القاهرة وانطلاقة المغامرات على بلاط صاحبة الجلالة، ساعتين.. ثلاث من السير على أقدامى لا أشعر خلالها بتعب ولا ملل، بيدى «قرطاس» من الفول السودانى او اللب اشتريته من عربة كانت تقف على ناصية المنيرة، كنت أعشق السير فى شوارعها، حيث الأمان، لا تحرش ولا زحام خانقا ولا كم متسولين بلطجية يطاردونك طوال الطريق.. كما الآن.

كنا نخرج مجموعة من زملاء الوفد القدامى شبابا وفتيات فى عمر الزهور، مع آخرين من صحف اخرى نثرثر حول الحياة واحلام الغد، عن صولاتنا وجولاتنا فى عالم الصحافة المثير، تدفعنا اقدامنا لنأكل ساندويتشات الكباب والكفتة فى حى السيدة زينب أو الحسين، نشم عبق التاريخ المختلط بروائح البخور والعطور المعتقة، او الكشرى والفول والطعمية من التحرير، نزور المتاحف والأتيليهات وبيوت الفن، او ننطلق الى حديقة كانت قرب المطار لنلعب كرة القدم او حتى «الاستغماية»، لم نعرف من الشباب إلا براءته وكأننا اطفال لم تلوثنا الحياة، ولا نعرف من الصحافة إلا منافستها الشريفة، كنا نحلم، وقد اعتقدنا اننا لن نفترق أبدا ولن نفارق شوارعها، فاذا بالواقع يفرقنا، ومتطلبات الحياة تقذف بمعظمنا خارج حدود القاهرة الى بلدان عربية وأوروبية، لنعود اليها وقد شاخت ملامحنا فى الغربة، ولكن بداخل معظمنا ذات الطفل الذى عشق هذه الشوارع، وعاش على ذكرياتها خارج الحدود.
انظر لشوارع القاهرة الآن، فأرى ملامحها شاخت كما شاخت ملامحنا فى الغربة، وكما شاخت ملامح كل ابنائها الشباب والأطفال قبل الأوان، أرى زحام السيارات الخانق والعادم يحجب النجوم عن سمائها، أرى جرائم التحرش والخطف والاغتصاب تتمدد فى أركان أزقتها.. حواريها لتسرق هذا الشعور الرائع بالأمان الذى كنت أعيشه مع رفاقى فى الشباب، أرى العشوائيات تشوه مداخلها وحتى قلبها، اختفت معظم الحدائق العامة، وحلت مكانها الأبنية الشاهقة والمولات، اختفى كورنيش النيل وحجب صفحته عوامات وكافتيريات وقصور أصحاب السطوة.
وما تبقى من شوارع القاهرة تحول الآن الى متاريس وثكنات، أقسام الشرطة والبنيات المهمة من سفارات او مقار حكومية تحيط بها الجدران والحواجز الأسمنتية الضحمة، وكأننى أرى الجدار الإسرائيلى العازل وقد انتشر فى كل أرجاء القاهرة، أحاول أن أقود سيارتى بين الشوارع، فأجد الطرق مغلقة، وقد تم إلغاء أحد الاتجاهين، وتحويل طريق واحد ضيق الى «رايح جاى» بزعم دواعى التأمين، فى طريق ذهابى وعودتى من المعادى للوفد، أهرب من زحام الطرق العامة الى طريق داخلى عبر البساتين والفسطاط، فأجد وزارة الداخلية قد حولت هذه المناطق الى ما يشبه السجن المفتوح، أتلال من الاتربة كالجبل على أطراف الطريق المؤدى لقسم البساتين، فتم إغلاق الطريق تماما بهذا الجبل الترابى، وتحويله الى طريق ضيق مهدم، للتصادم السيارات العامة والخاصة مع الأتوبيسات الضخمة فى هذا الطريق الضيق المؤدى لمقابر البساتين ومن ثم الإمام وباب الوزير.
أمام قسم البساتين نفسه، تم وضع إطارات سيارات، وسيارات قديمة وأكوام من القاذورات كحواجز فى مشهد مقزز، لحماية القسم من أى هجمات تهدد أمنه، وأمام قسم مصر القديم وشرطة الآثار ومتحف الحضارات المصرية ودار

الوثائق، تم إغلاق الطريق المؤدى الى مسجد عمر بن العاص بالحواجز الحديدية ومنع حتى المارة من المرور أمامه لدواعى الأمن، وتم جعل طريق واحد فقط وهو المقابل له للذهاب والاياب، وكل صباح يشهد هذا الطريق حادث تصادم أو أكثر ناهيك عن المشاجرات لضيق الطريق، ولوجود ورش لتصنيع منتجات الجبس وورش أخرى للسيارات تسد ما تبقى منه، وبين كل هذه الحواجز والمتاريس التى حولت منطقة أثرية رائعة الى سجن مفتوح، ساحته مليئة بأكوام القاذورات والمخلفات، تنفجر بين يوم وآخر ماسورة مجارى قادمة من «المدبح» محملة بدماء الحيوانات، فتنفجر المياه بلونها الأحمر ورائحتها الكريهة فى نافورة عالية، وكأنها مشهد لفيلم رعب، فيما تنشر على حواشى المكان اسطبلات للخيل والبغال وعشش عشوائية يعلم الله ما بداخلها من موبقات.
هذا جزء من كل.. أراه وغيرى يوميا، ومنذ عدت لمعشوقتى القاهرة قبل اكثر من ثلاث سنوات، لم يتغير المشهد إلا للأسوأ، رغم قيام ثوريتن وتوالى خمس أو ست حكومات، لم أعد اذكر ولا أريد أن أحصى، لأنه لا شىء يتغير، فقدت القاهرة رونقها وروعتها فى معظم مناطقها الجمالية والأثرية، وماتت حدائقها التى كانت متنفسا لسكانها المساكين، الذين شاخت ملامحهم، وأصبحت تكشيرتهم هى الملمح المتبقى، والغبار على وجوههم هو اللون الوحيد، لما يشمونه من عادم، ويعانونه من زحام، ويرونه من عذاب وقرف يومى فى شوارع المحروسة التى لم تعد تجد من يحرسها.
حقا تم تفريغ جزء من قلب القاهرة من الباعة الجائلين، ولكن باقى أرجائها بات كالسجن القذر المفتوح تارة بسبب طرق الداخلية العقيمة لتأمين منشآتـها، وتارة لاهمال المحليات ما هو مطلوب منهم، من نظافة الشوارع وتجميلها وصيانة شبكات المجارى والمياه، أو حتى اضاءتها ليلا بلمبات بيضاء موفرة، بدلا من تركها عتمة قذرة متخمة بالحواجز.
تختنق ذكرياتى حول قاهرتى القديمة فلم أعد أجد من صداها سوى العدم.
رسالة للداخلية: هناك وسائل متقدمة لتأمين مقار الشرطة والبنايات المهمة، علكم سمعتوا عنها بدلا من الحواجز العقيمة التى زادت من اختناقنا، هناك استراتيجيات وخطط دولية لمواجهة ‏المخاطر، أساليب حديثة لرفع مستوى الأداء لمسئولي الأمن لتحقيق فاعلية التأمين والسيطرة الأمنية، ومواجهة مخاطر التخريب والإرهاب، هناك ‏معدات ووسائل حديثة، للوقاية من أى هجمات أو محاولات إحراق، اقرأوا.. نفذوا، وارحمونا.

[email protected]