الأسرة المصرية .. قبل فوات الأوان
لأني أحبها و تشغلنى ، لأن مكانتها فى نفسى تتعادل مع مكانة مصر السارية بعروقى مجرى الدم ، لأنى أعشق كيانها وهى ملتفة حول مائدة الطعام ، أعشق صورتها وهى مجتمعة فى الشرفة او ساحة الدار بقلب الصعيد ، تتبادل الحكايا مع رشفات الشاى المحلى بالنعناع الاخضر ، الذى يحمل رائحة الارض وطيبتها وعبقها الغامض الفريد ، لأن ضياعها يعنى ضياع النفس والذات ، يعنى ضياع مصر وعنصرها الذاتى الذى يميزها بين اكوان الارض ، انها الاسرة المصرية التى افرد لها مقالتى الرابعة فى هذا المكان الدافئ من بوابة الوفد .
الاسرة التى باتت مهددة بالضياع والتفكك ، وكما قلت سلفا إن غياب الوازع الدينى ، وإهمال رب الأسرة غرس خلق الدين فى نفس أولاده ، أو معاملتهم وفقا لأصول الدين ، يعد من أهم اسباب انهيار الاسرة خلقا ودينا وتشتتها بين الأهواء ، كما قلت إن الانترنت اللعين والهواتف وكافة وسائل الاتصال ، التى باتت متربعة تتخم كل بيت ، سببا آخر رئيسيا فى تفكك الاسرة وتشتت الابناء كل فى ذاته خلف شاشاته ، بعيد عن التواصل الاسرى ، او الاحتكاك الاجتماعى المباشر .
يضاف الى هذا وذاك غياب القدوة ، وانشغال الاب ساعات طويلة فى عمله وفى البحث عن سعادته خارج المنزل مع الاصدقاء او فى إقامة علاقات سرية بعيدا عن بيته ، تحت زعم تعويض تعب العمل ، بجانب انشغال الام وتفانيها الزائد فى قضاء شئون البيت ، وتركيزها على نظافة البيت اكثر من نظافة خلق اولادها ، او اهتمامها بتغذيتهم بدنيا بالأطعمة المتنوعة ، عوضا عن اهتمامها بتغذيتهم النفسية ، اوضمهم الى حضنها ، ففقد تقريبا حضن الام دفئه ، وبات الاب مجرد بنك تمويل لاحتياجات الاسرة ولتلبية مطالب الاولاد التى لا تنتهى ، وتحولت الام الى آلة او ماكينة تعمل بلا روح او حياة لقضاء مطالب الاسرة ، وتحول الابناء الى فراعنة ، عاقين رافضين لكل نصح ، يرون انهم الأصح وان الاباء " دقة قديمة " لا يفهمونهم ، وباتت هناك عداوة مستترة ، وحرب نفسية دائمة بين كل طرف من اطراف الاسرة ضد الآخر .
فأين المنتهى ، واين الحل ، الحل يا سادتى هو العودة الى الله ، ان نتجه جميعا بقلوبنا وعبادتنا الى الله ، ان يستغفر كل منا فى تلك اللحظة ذنوبه ، ان يقف وقفة متأنية مع النفس ، ان ينظر في ما قدمت يداه لأسرته ، كل فى مجاله ، أن يحاسب الاب الآن نفسه ، هل كان أبا حقيقيا وقدوة لابنائه فى الدين والخلق ، ان تحاسب الام نفسها ، هل كانت اما حقيقية تنصح وتربى وتوجه ، وتضم اولادها الى حضنها حتى فى وقت الغضب والضيق ، لتقومهم ، وتستوعب اخطاءهم لتصويبها بالحب والحنان ، ان يقف الاولاد ايضا مع انفسهم ، ويحاسبونها ، هل هم اولاد بارون بوالديهم ، هل يتعاونون مع الاب المجهد والأم المنهكة فى قضاء بعض امور المنزل ، ولو حتى فى تنظيف غرفهم وتعليق ملابسهم ، وحمل ولو حتى الاطباق مع الام وقت الطعام ، والذهاب بدلا منها الى السوق او السوبرماركت ، ليحمل عنها جانبا من المسؤلية المضنيه .
علينا ان نقف جميعا الان ونسأل انفسنا ، كم مرة وقف المسلمون أبا وأما وابناء فى صلاة جماعة معا بالمنزل ، كم مرة أصر الاب ان يصطحب ابنه للمسجد للصلاة ، كم مرة حرص مسيحى ان ياخذ ابناءه الى الكنيسة ، وان يلقنهم المحبة الحقيقة الواردة بالانجيل للاخرين ولمجتمعهم كله دون فوارق .
علينا ان نقف مع انفسنا جميعا ، لنقيم المكاسب التى حصدناها من قضاء الساعات الطويلة امام الانترنت او فى الاتصالات مع الغرباء فى امور تافهة ليس لها اى جدوى ، امور تضيع الوقت وتهدر الجهد ، وتشتت الذهن لما لا يحمد عقباه .
علينا ان نجلس جميعا اليوم فى هذا المساء او الامسية القادمة فى غرفة المعيشة ، فى " حوش " الدار ، او حتى فى ساحة عشة الايواء انا كنا
علينا هذا المساء او غد ان نقرر معا ، اغلاق كل وسائط الاتصالات الالكترونية الساعة الثانية عشرة ليلا ، الساعة الواحدة ليلا كأقصى تقدير ، على الاباء ان يكونوا حاسمين واكثر حسما فى تحديد ساعات قبوع الاولاد خلف الشاشات ، لافارق فى ذلك بين ايام دراسة او إجازة صيفية ، لماذا السهر ، لماذا لا نستمتع بحياتنا فى النهار ، لماذا نتحول الى خفافيش تقضى حياتها ليلا ، وتنام نهارا .
لقد حبانا الله وميزنا عن سائر المخلوقات بنعمة العقل ، وعلينا أن نعمل عقلنا فى إنقاذ اسرنا ، ان نبحث عن مشروع عائلى يجمعنا معا ، ان نعيش طموحات افراد الاسرة واحلامهم لا طموحاتنا فقط واحلامنا ، ان يساعد الاخ الكبير اخاه الاصغر ، وان يحترم الصغير الكبير ، ان نخرج معا فى رحلة او زيارة لمكان عام ، نتبادل الكلام والضحك والمشاعر ، ان نحدد يوما اسبوعيا لزيارة افراد العائلة او السماح لهم بزيارتنا ، فلا عجب أن أقول إن من ابناء هذا الجيل من لا يعرف خاله او ابن عمه ، ولا عجب أن أقول إن تقطع الاوصال دفع بالابناء للتخلص من ابائهم فى بيوت المسنين ، وهو امر لم تكن تعرفه مصر حتى وقت قريب ، ولا عجب أن أقول إن معدلات الطلاق فى مصر بلغت فى السنوات الاخيرة اعلى رقم لها ، ولا عجب ان اقول إن معدلات الانحراف وعقوق الابناء واعتداءاتهم على الاباء باتت فى اوجها الان ، ولا عجب ان اقول ان معدلات خيانة الازواج وزواجهم السرى بأخريات بلغ من الخطورة مبلغا رهيبا .
علينا ان نفيق قبل فوات الاوان ، قبل أن نصبح مجتمعا بلا أسرة ، لاننا وقتها سنكون مجتمعا بلا مجتمع ، افيقوا يرحمكم الله وليبدأ كل منا بنفسه هذا المساء او غدا ، ولكن لا ترجئ عودتك الى حضن اسرتك الى ما بعد ذلك ، لأن الاوان سيكون قد فات ، وستجد نفسك وحيدا فى العراء بلا اسرة ، حتى وان كنت تعيش بجسدك فى بيت واحد مع هذه الاسرة ، ساعتها ستكون غريبا فى بيتك ، ضائعا فى مجتمعك منبوذا داخل ذاتك ، فلا طعم للنجاح الا مع التفاف الاخرين حولك ، كما أن للعطاء والتضحية طعم لذة لا يعادله لذة ، ساعتها ستندم كثيرا فى وقت لن ينفع فيه ندم ..