رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

فن احتراف الإعاقة ورجال الشوارع

كان يسير متكئاً على عصاه، وقدمه اليمنى العاجزة قد التوت بشدة فى الاتجاه الخارجى وكأنها ستنخلع، وقد انحنى ظهره رغم أنه شاب فى العشرين من عمره، فإن مشهد عجزه ترق له القلوب التى تعتقد أنه ولد بهذه الإعاقة أو أصيب بها جراء حادث، فتراه وهو يتخبط متحسساً طريقه بين السيارات منتظراً عطف المارة وقادة السيارات هذا يمنحه وذاك ينهره، وكنت

أعطف لحاله بسبب عجزه الواضح فى قدمه، فإذا كانت فرص العمل تضن على الأصحاء، فما بال هذا المسكين، واعتدت أن أراه فى طريقى من البيت للجريدة ذهاباً وإياباً، حتى صار على مدى عدة أشهر وكأنه أحد معالم الطريق، وفجأة اختفى، وحل مكانه فى نفس البقعة آخر، ولعجائب المفارقات أن الآخر كان عاجزاً فى نفس القدم وبنفس الطريقة ويتكئ بدوره على عصا، الأمر الذى استرعى انتباهى، وثارت لدى الشكوك بأنه يفتعل هذا العجز، ويبذل هذا الجهد القاسي ليلوى قدمه بهذه الطريقة المؤلمة طيلة هذه الساعات مقابل بضعة جنيهات.
وصدق حدسى، فقد كشفت لى مصادفة أخرى ما توقعته، فقد لقيت الشاب الأول بمنطقة أخرى فى ضاحية المعادى، ولكنه للعجب، لم يكن به العجز الأول فى قدمه، فقد اعتدلت فى شكل طبيعى، وجدت العجز انتقل إلى يديه ووجهه، فإذ به يلوى يديه بصورة خاصة متشنجة وكأنه مشلول، وقد أعوج وجهه تماشياً مع مظهر الشلل، بجانب رعشة واضحة فى نصف جسده العلوى، ونظراً إلي قدرته البارعة على التمثيل، فقد كان يستمر فى هذا المشهد متقمصاً صورة من يعانى شللاً لساعات طويلة فى نفس المكان لجذب عطف المارة ومالهم بادعاء العجز والمرض، بل هناك صيحة جديدة ظهرت بقيام رجال أو شابات يافعات بلف أطفال فى «شاش أو قماش أبيض كالكفن»، ووضعهم فى كراسى المعاقين ودفعهم أمامهم فى هذه الكراسى طيلة النهار للتسول بهم، والأطفال لا حول لهم ولا قوة سواء الجو برداً أو حراً خانقاً، يحتملون «الكفن» الملفوفون بداخله، وقد استسلموا للنوم العميق، أو لعله تم تخديرهم ليظهروا بمظهر المريض الغائب عن الوعى، لابتزاز المزيد من عطف المحسنين.
وتعجبت لهذا الشاب وذلك الآخر، وآلاف آخرين من الشباب والرجال الأصحاء البدن ببنيتهم القوية التى تمكنهم من «هد جبال» وهم يوفرون هذه الطاقة والقوة عن العمل أو حتى البحث الجاد عن أى فرصة عمل أو حرفة فى أى مكان فى أى محافظة من محافظات مصر الكثيرة، وتوجيه هذه الطاقة والوقت إلى التفنن فى اصطناع إعاقة للتحايل بها على المواطنين، وافتعال العجز والمرض والبقاء ساعات طويلة فى فيلم تمثيل الإعاقة، وكان من باب أولى توجيه هذه الساعات وهذا الألم فى أى عمل منتج أو مثمر يعود عليهم بالرزق الحلال ولو أقل القليل منه، ليكفوا أنفسهم شر مد اليد وذل التسول، وهناك الكثير من الحرف التى لا تحتاج إلى خبرة ولا شهادات دراسية ولا واسطة، ويمكن لمن يحترفها أن يعيش على الأقل مستوراً حتى يرزقه الله رزقاً أوسع من طريق حلال، بالعمل فى أعمال البناء بالمدن الجديدة، فى ورش النجارة، السباكة، فى تكسير الأحجار لإعدادها للبناء، فى إعداد وصقل الرخام، فى أعمال النظافة، فى أعمال البوابة وحراسة العمارات، فى الالتحاق بشركات الأمن الخاصة، أو حتى فى بيع «حزم الخضراوات» من بقدونس وجرجير وغيرهما والتى لا تحتاج إلا لبضعة جنيهات كرأسمال، وغيرها العشرات من مجالات العمل المتاحة التى تحتاج دوماً إلى أيدٍ عاملة فى وقت تعطلت فيه عروض العمل الأخرى أو التوظيف.
وإذا كان كل المسئولين المعنيين بالمجتمع المصرى، أو حتى الإعلاميين يتحدثون دوماً عن ظاهرة أطفال الشوارع، ووجود الملايين من هؤلاء يتم استغلالهم فى التسول وبيع السلع

التافهة من لعب ومناديل الورق التى لا يعلم الله سر صناعتها من المخلفات والخامات الرديئة، ويعلم الله أيضاً كميات الأمراض والتلوث التى تحويها، فإن قلة تنبهت لظاهرة «رجال الشوارع» هؤلاء الشباب والرجال ما فوق سن الشباب الذين يحترفون التسول باصطناع العجز والمرض، ويقومون بمطاردة المارة ليل نهار فى الشوارع ويستوقفونهم فى إلحاح مقيت، وكأنهم قطاع طرق من نوع خاص.
رجال الشوارع يا سادة تزايدوا بصورة خطيرة وفى كل مكان خاصة القاهرة، فى كل إشارة مرور يوجد على الأقل أربعة من رجال الشوارع، بجاب عدد مماثل أو أكثر من أطفال الشوارع، إنها عصابات متشابكة ومتغلغلة فى كل أرجاء العاصمة وبكثافة، قد تقبل طفلاً وهو يتسول لأنه مغلوب على أمره، لم يجد الأسرة الحقيقية التى ترعاه وتعلمه وتنفق عليه، ولأنه عاجز عن إيجاد عمل فى هذا العمر الصغير، ولكن يؤسفك أن تجد شاباً أو رجلاً يتسول فى مشهد يثير التقزز أكثر مما يثير الشفقة، خاصة هؤلاء الذين يتفنون فى اصطناع الإعاقة، وقد اتخذوا من التسول حرفة، وأعتقد أن غالبيتهم حققت بعض الثراء أو على الأقل اكتفت من هذا التسول ولكنهم يواصلون الاحتراف، حتى إن أحدهم لم يعد يكلف نفسه لاصطناع إعاقة واكتفى بطلاء جسده بلون الفحم الأسود واصطنع الجنون عبر الإتيان بحركات مخبولة غير مفهومة.
وإن كنت ألوم الشرطة تجاهلها ظاهرة رجال الشوارع، وتركها لتتفشى على هذه النحو البشع المزري، وألوم كل مسئول لمصر، فإننى ألوم أيضاً رجالات المال المصريين الوطنيين الشرفاء، الذين يقفون فى صفوف المتفرجين على إخوانهم الشباب والرجال وهم يتسولون فى الطرقات ليهدورا أهم وأقوى سنوات عمرهم فى اصطناع العجز والإعاقة، دون أن يتحركوا لتخليق مشروعات جديدة صغيرة، أو فتح ورش للحرف المختلفة، يتم من خلالها توفير فرص عمل لهؤلاء، وأخيراً لا يسعنى إلا أن أعود بهؤلاء مصطنعى الإعاقة إلى الوازع الدينى، وأذكرهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده».. وقال أيضاً: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله، أعطاه أو منعه».
وقال: «مايزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم»، بمعنى أن يأتى يوم القيامة بلا لحم فى وجهه لأن وجهه والعياذ بالله أذله امام الناس في سؤال الدنيا.


[email protected]