رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

لا تشتروا الهدايا لهؤلاء الأمهات

الشمس تغادر الكون، أبناء بلدى يهرولون لا يلوى أى منهم على شىء وكأنهم فى صراع مع الزمن للوصول لمنازلهم قبل مدفع الإفطار بعد يوم رمضانى طويل، الجو صيفى خانق،

وزحام السيارات فى تداخل رهيب مع البشر، كنت ضمن آخر زبائن «السوبر» ماركت القريب من المنزل برفقتى ابنتى الصغرى، عندما تناهى إلى صوت صرخات امرأة «الحقونى.. الحقونى.. هيقتلنى» أعدت إغلاق باب سيارتى بسرعة، تلفت لاستطلاع مصدر الصوت، وبالكاد، لمحت سيارة ملاكى رمادية فاخرة، تقف فى «ركن» جانبى من السوبر ماركت، جذبت ابنتى وأسرعت لمصدر الصوت، لم أفكر فى أية أبعاد لما يمكن أن يحدث لنا لو كان هناك خطر ما، فالاستغاثة صادرة من سيدة مسنة، ومؤكد أنها تحتاج لإنقاذ ما، كانت ابنتى خائفة ترتعد وتحاول إعادتى لسيارتى، لكنى واصلت خطواتى للسيارة الغامضة..!
ووجدتها.. سيدة فى السبعينيات من العمر، ترتدى ملابس سوداء أنيقة وغطاء رأس، تحاول الخروج من باب السيارة الواقفة، وقد تدلت قدماها - متورمتان إثر مرض - من السيارة متشبثة بالأرض، فيما يجذبها شاب أسمر ضخم البنيان، قاسى الملامح لإعادتها داخل السيارة فى قوة وعنف وهو يأمرها بالصمت وبإغلاق باب السيارة ليواصل سيره، وهى تقاومه فى ضعف، ولا تحاول حتى تضربه لتدفع أذيته عنها..!
صرخت فى وجهه «فيه إيه» وأنا أجذب السيدة إلى خارج السيارة وأخلصها من يديه، بهت هو وقد فوجئ بى، حيث كان العديد من المارة لا يلتفتون مطلقا إلى ما يحدث ولا يستجيبون لصرخات السيدة، وكأنهم لا يسمعون، فأسرع بمغادرة السيارة محاولا الهجوم على لاستعادة السيدة، سرت بها غير مبالية به، وأجلستها على الرصيف القريب وأنا أهدئ من روعها وابنتى تساعدنى بتجفيف سيل الدموع المنساب بين تعاريج وجه السيدة العجوز وتقول لها «ما تبكيش يا تيتية»، قالت السيدة «الحقينى، خاطفنى وهيودينى حتة بعيدة عشان يقتلنى».. فهتف الشاب الضخم من وراء انحنائى عليها وأنا أحميها «كذابة.. الست دى كذابة دى أمى، وأنا واخدها تفطر عند مراتى»، صرخت فيه «اخرس.. اخرس.. انت ابنها وبتعاملها بالشكل ده، أنا هاتصل بالشرطة، ومش هاسيبك تمشى مهما يحصل «وأطلعته على هويتى الصحفية النقابية، وزعمت أننى التقطت له وللسيدة صورا، ولن ينقذه منى إلا الحقيقة.
ويبدو أن السيدة استشعرت خطرا على ولدها، فأخبرتنى من بين دموعها بالحقيقة، أنها أرملة «ضابط شرطة» وبعد وفاته منذ أعوام طويلة، نذرت نفسها لتربية أولادهما الثلاثة، الأكبر ضابط فى موقع رفيع، الثانى لا أتذكر مهنته، والثالث الأصغر هو هذا «العتل» الواقف أمامى، محاسب ويعمل بالسعودية، وقالت إنه منذ تزوج وأنجب، وهو يحاول الاستيلاء على شقتها هو وزوجته، تلك التى ربتهم فيها، ويحاول أن يؤجر لها أى غرفة صغيرة، وحاولت هى أن تقنعه بأن يأتى وزوجته وأولاده للإقامة معها فلا يبعدها عن شقتها التى عاشت فيها عمرها وذكرياتها، واستنجدت بأخويه ليحموها منه، لكن لكل منهم حياته، ورغم أن الله أكرمه بالعمل فى الخليج وإمكانية شراء شقة كبيرة، إلا أنه طامع فى شقة أمه.
وأضافت الأم العجوز: «أنا عمرى ما فارقت بيتى، ده بيت المرحوم ربيتهم فيه، هو مستعجل على إيه، مانا هموت وأسيب كل حاجة، بس خلينى اليومين الفاضلين أعيشهم فى بيتى، وهو مش راضى ليجىء يعيش معايا، مع أن مراته بتعاملنى وحش قوى،، والنهاردة جه وخدنى بالعافية، أنا خايفة يقتلنى عشان الشقة ويرمينى فى الشارع، وأنا عيانة وما خدتش معايا الدوا بتاعى، ومش قادرة أمشى».
ابتلعت ملح دمعى وغيظى لأتماسك بقوتى فى مواجهته، هذا الابن الجاحد العاق، الذى لم يقدر عطاء أمه ولم يرحم عجزها وضعفها، وطمع فى آخر ما تبقى لها فى الحياة بيتها، وتظاهرت بأنى أطلب الشرطة، فإذ به يتصل بشقيقه الضابط اعتقادا منه أنه سيرهبنى.

وفى دقائق، وجدت شقيقه يقف أمامى بسيارة أخرى فاخرة، وحاول الأخير تهديدى وبأنه.. وأنه.. قلت له فى ثبات، أنت وأخيك لستما فى نظرى إلا أبناء عاقين، لا يهمنى تهديدكما، إما أن تنقذ أمك من أخيك، أو أتصل بالشرطة، وإن كنت أنت ضابط، فلدى من هم أعلى منك ويمكنهم أن يضروك وهناك الله الأعلى الضار، فاتق الله فى أمك، ويبدو أنه كان أرق قلبا من الأول «العتل»، فربت على كتف أمه، وقالت وهى تستنجد به: «كان عايز يموتنى»، وتنحى الشابان جانباً، ودار بينهما جدال وخلاف، وبعدها، عاد الضابط إلى أمه وقال لها سأعيدك إلى شقتك، ولن تتركى شقتك ولو على جثتى، وأضاف مطمئنا لها «مش قلتلك اتصلى بيا لو جه وضايقك تانى»، فقالت فى عجز: منعنى يابنى أكلم حد وهددنى.
وبعد أن أخذت رقم هاتف الضابط، وهاتف شقة الأم واسمها بالتفصيل، ودونت لها فى ورقة رقم هاتفى، وطلبت منها أن تكلمنى لو تعرض لها أحد من أبنائها، اطمأنت السيدة، وصعدت سيارة الابن الضابط، بينما كان «العتل» يرغى ويزيد، ويتوعد أمه وشقيقه ويتوعدنى، وغادرته بجملة أخيرة «لن يبارك الله لك فى شىء أبدا»، قلتها وأذان المغرب يرتفع للسماء، وحاولت بعدها الاتصال بالأم، أو بابنها، لكن كانت الأرقام مرفوعة ولا ترد، فهل ماتت وارتاحت من جحود أولادها وتركت لهم ما طمعوا فيه، أم لا تزال تحيا تعانى عقوقهم، أو أن الله هداهم.. لا أعلم، لقد عايشت هذه القصة، وهذا جزء من كل ما تعانيه ملايين الأمهات على أيدى أبناء عاقين، فكم من ابن كافأ عطاء أمه وتعبها بالعقوق والنكران، وكم من ابن قتل أمه من أجل المال، أو ضربها وأهانها، وهو يعلم أو يتجاهل أن العقوق بعد الشرك بالله، وأن العاق لا يقبل منه عملا أبدا، وهو فى الدرك الأسفل من النار، ولن يبارك له الله أبدا فى عمل أو رزق أو أولاد.
إلى كل ابن وابنة، أمهاتكم لا تحتاج فى عيد الأم إلى هدية مادية.. إنها تحتاج إلى الرحمة بها.. الحب.. الحنان، لا تشتروا الهدايا المادية، قدموا لها كلمة طاعة وحب، وستكون هى هديتها، وسيكون لكم رضاها ودعواتها، «إذا ماتت الأم نزل ملك من السماء يقول: يا ابن آدم؛ ماتت التي كنا نكرمك من أجلها، فاعمل لنفسك نكرمْك»، وأوصى رسولنا الكريم بالأم ثلاثة أضعاف الأب، رحم الله أمى وكل الأمهات وأسكنهن فسيح جناته جزاء بما صبرن وبما لاقين من عقوق.