رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الأسطر الأخيرة من رحلة لن تنسى

أعود إليكم بعد استراحة العيد بالأسطر الأخيرة من رحلتى على طريق الموت من هولندا برا إلى سراييفو، برفقة حملة إنسانية أوروبية لتقديم معونات للمسلمين فى البوسنة والهرسك، هؤلاء الذين تعرضوا لمذابح بشعة على أيدى الصرب فى الحرب الأهلية بمساعدة الكروات،

وعندما ذهبت المعونات الى غير هدفها للكنائس الكرواتية على الحدود بزعم صعوبة ايصالها للمسلمين، انفصلت بغضبى عن الحملة برفقة زميلى سعيد السبكى، ودخلنا سراييفو بمساعدة مكتب الاغاثة الاسلامية، لتغطية انباء الحرب من ارض الواقع كأول صحفيين عربيين، تنقلنا فى شوارع سراييفو تحت قصف النيران الصربية وخطر الموت وقد تحولت سراييفو الخضراء لمدينة اشباح لفرار معظم اهلها، رأينا جثث المسلمين فى الشوارع وتحت الانقاض، سجلنا بالكاميرا لقطات العذاب، وزرنا مخيم اللاجئين «سيبرنيسكا» ورصدنا المآسى الانسانية من اغتصاب الاطفال والنساء المسلمات بصورة جماعية على ايدى ميليشيات الصرب، قصص لا ينساها التاريخ ولا ذاكرتنا، وستظل وصمة عار عالقة فى ضمير العالم الغربى وايضا الإسلامى الذى لم يتدخل لايقافها فى حينها.
قضينا ليلة مظلمة بفيللا مهجورة فى حى صربى لانعدام اماكن الاقامة، عايشنا ساعات الرعب عندما اكتشفت وجودنا بالفيللا سيدة صربية، واثناء مغادرتنا المكان قبل ان يتسرب خبرنا لميليشيات الصرب، فوجئنا بصوت سيارة يفرمل بقوة خلفنا ونحن على الطريق، توقفت نبضات قلوبنا لحظات، وحين التفتنا خلفنا ونحن نتصور ان سلاحا ناريا مصوب الينا، فوجئنا بوجوه احببناها وكانت مبعث امننا فى تلك الرحلة غير المتوقعة، الشاب البوسنى آدم وزوجته صوفيا، رفيقينا من مكتب الاغاثة الاسلامية، تنفسنا الصعداء، وانطلقت بنا السيارة لتشق طريقها الى مخيمات اخرى للاجئين لرصد المزيد من الوقائع، كنا فى صراع مع الزمن من اجل ارسال الصور والتحقيقات الصحفية الى جريدة «الوفد» بالقاهرة حيث كانت بالمنيرة، فقد كانت مكاتب البريد بسراييفو شبه معطلة، ولم يكن وقتها عام 93  قد عرف الانترنت والبريد الالكترونى على نطاق واسع كما هو الان، وساعدنا مكتب الاغاثة فى ارسال الرسائل عبر اعوان له خارج سراييفو الى «الوفد» والى مجلة الشرق الاوسط التى كانت تصدر فى لندن، وكان يرأس تحريرها الاستاذة فوزية سلامة، وكان شهادتنا الصحفية حول تلك الحرب الاولى من نوعها عربيا، غير ان شعورنا بالسبق الصحفى توارى تماما مع شعورنا بحجم مأساة المسلمين، وبالعجز الإسلامى عن ايقاف ما يحدث، وعندما انهينا مهمتنا الصحفية بعد يومين كان علينا المغادرة، وكانت لحظة فراق صعبة لرفيقينا آدم وصوفيا، أهديت صوفيا سلسلة رقيقة من الذهب تحمل اية الكرسى، كانت هدية من والدتى، قلت لها بثقة انها ستنجو، وستنتهى الحرب، وسأراها مجددا، وستجمعنا آية الكرسى، واوصتنا بدموعها ان ننشر للعالم قصة المسلمين

فى البوسنة والهرسك، ووعدناها، ونفذنا، وخرجت صفحات «الوفد» ومجلة الشرق الاوسط بسلسلة من التحقيقات الحية من ارض الحرب والمأساة.
قبل الوصول لحدود كرواتيا قاصدين العودة لهولندا، استوقفتنا نقطة التفتيش، اكتشفنا لحظتها فقط اننا لا نحمل جوازات سفرنا طيلة هذا الوقت انا وزميلى، واننا نسيناها مع مسئول الحملة الانسانية فى كرواتيا، وانقذتنا من عملية اعتقال محتملة بطاقتنا الصحفية الدولية، واضطررنا بعدها للعودة الى الفندق الذى تركنا به الحملة، املا ان يكونوا قد تركوا لنا الجوازات، وحين وصلنا الفندق فوجئنا بجميع افراد الحملة لم يغادروا، بل بقوا فى انتظارنا وقد عصف بهم القلق اعتقادا اننا قتلنا، وكانوا ينتظرون اى خبر عنا من مكتب الصليب الاحمر، وقبل ان يستمعوا لما رأيناه كشهود عيان، كانوا يعيدون حقائبهم الى الحافلة لتعود الى هولندا، بين جبال النمسا الخضراء وابنية المانيا من التراث العتيق تلك التى توقفنا بها فى طريق عودتنا لهولندا، كنا نحكى لهم ما رأيناه كشهود عيان من جرائم بشعة فى حق المسلمين، كان بعضهم يسمعنا غير مصدق، واخرون سدوا اذانهم بسماعات تصدح باغانى مايكل جاكسون ومادونا، عدنا لهولندا لنكتب المزيد وكنا نبكى كلما استغرق القلم فى سجل ذاكرتنا.
حين مر اكثر من 6 اشهر على تلك الرحلة، انجبت طفلى الذى شاركنى جنينا رحلة الموت، فاسميته باسل، حكيت له كثيرا سر اسمه، وها انذا احكى مجددا قصة شعب و جريمة، جريمة عاصرت فيما بعد محاكمة مرتكبيها امام محكمة جرائم حرب يوغوسلافيا فى لاهاى بهولندا، وعلى رأسهم رئيس الصرب سلوبودان ميلوسوفيتش، زعيم صرب البوسنة رادوفان كاردزيتش ولا يزال يحاكم حتى الان، والقائد العسكرى راتيكو ميلاديتش، وكثير من المجرمين فروا بجرائمهم، لكنهم لن يفروا ابدا من ذاكرة التاريخ ولا من عقاب السماء.