رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

سراييفو..حضارة الموت وأنين الأطفال خلف الجدران!

كان الموت أقرب ما يكون إلينا، أقرب من نبضات قلوبنا، خلجات عقولنا، كنت أشعر مع كل لفحة هواء تفاجئني، أن قذيفة ما اخترقتني أنا أو أحد رفاقي الثلاثة، أتخيل كل حبة عرق وكأنها دماء تنسال مني،

وعجلات السيارة الصغيرة التي تقلنا تتحسس شوارع سراييفو بين الأنقاض وبقايا جثث يتم نقلها إلي مدافن جماعية، أو جرحي يحملون إلي مدارس قريبة أو مستشفيات لم يتبق منها إلا بعض الجدران بعد أن دك الصرب أبنيتها، بل انتابتني للحظات مشاعر بأني أسير وأنا مقتولة، خليط من الألم والترقب خبرته بقسوة مع زميلي سعيد ومرافقينا من مكتب الإغاثة الإسلامية الزوجين البوسنويين «آدم» و«صوفيا»، ونحن نسير بين مشاهد الموت والدمار، وذلك بعد أن غادرنا مكتب الإغاثة، الذي كان عوناً لنا في نقلنا من حدود كرواتيا التي كنا قد وصلنا إليها براً قادمين من هولندا، ضمن قافلة مساعدات هولندية من أجل مسلمي البوسنة، تلك القافلة التي سلمت كما سبق وذكرت في الأسابيع الماضية، سلمت المساعدات للكنائس الكرواتية علي الحدود، وانفصلنا عن القافلة، وقررنا عمل تغطية صحفية، كانت الأولي عربياً لنقل صور حية، مما دار علي أرض الواقع من مذابح للمسلمين هي الأبشع في التاريخ المعاصر بما في ذلك  الحرب العالمية الثانية.
كان الغرب المسيحي يقف متفرجاً متواطئاً ولو بالصمت مع جرائم الصرب، بينما الكروات الذين وقف الغرب بجانبهم من قبل لنصرتهم أمام الصرب، انحازوا للصرب في حربهم ضد المسلمين في البوسنة والهرسك وبالعاصمة سراييفو، لاستكمال مخطط التصفية العرقية للمسلمين، وعندما كشف الإعلام الغربي نفسه تلك المجازر والمقابر الجماعية للضحايا المسلمين، وأعمال الاغتصاب الوحشية التي تعرضت لها نساء وأطفال المسلمين علي أيدي وحوش الصرب، تحركت الأمم المتحدة علي استحياء لإرسال معونات غذائية جواً لسكان سراييفو المحاصرين، بعد موت آلاف الأطفال والمسنين والمرضي من الجوع ونقص الأدوية، وكانت هذه المعونات التي يتم إلقاؤها من الطائرات وبالاً علي المسلمين، فقد كان الصرب يراقبون بأجهزتهم العسكرية مواقع إنزال المساعدات، فيصوبون تجاهها نيران مدفعيتهم لتضرب المسلمين، فيقتل الأطفال والنساء وهم يحتضنون قطع الخبز وتختلط حبيبات السكر الأبيض بالدماء، فتسيل علي الأرض ويسيل بجانبها زيت الطعام الذي ألقته الطائرات.
اضطررنا للاستغناء عن الكاميرا التقليدية التي حملناها معنا، لأن أي صور سنلتقطها لن نتمكن من تحميض أفلامها وطباعتها وسط هذا الدمار لإرسالها لجريدتنا الوفد، واستعنا بالكاميرا الألوان ذات الصور الفورية التي كان يحملها آدم لتوثيق لقطات حية من تلك المأساة الإنسانية والمذابح البشعة، داخل إحدي المدارس المتهدمة، التي كانت تضم جرحي وفارين من ويلات القصف توقفنا، فوجئنا بأطباء مصريين شباب بين من يداوون الجرحي ويحاولون نقلهم إلي أماكن آمنة، وعلمنا أنهم أيضاً ضمن هيئة الإغاثة الإسلامية، وقد جاءوا

طوعاً من مصر ومن بلدان أوروبية - حيث كانوا يقيمون - للقيام بواجبهم الإنساني الإسلامي، ورغم كل مشاعري بالعذاب لهول ما رأيت، أحسست بالفخر والامتنان لأبناء بلدي الذين وضعوا أرواحهم علي أكفهم من أجل إنقاذ إخوانهم المسلمين، كانت المعدات الطبية بدائية، والأدوية تكاد تكون منعدمة، ويتلخص معظمها في شاش وقطن وبعض المطهرات.
حاول «آدم» منعي أنا وزوجته من دخول تلك الغرفة، ليحمينا من المشهد البشع، لكني أصررت، لأفاجأ بطبيب شاب يبذل ما فوق طاقته البشرية لإنقاذ طفلة من الموت بترت قذيفة جزءاً من ساقها، و«نافورة» من الدماء تنفجر منها، كانت الطفلة قد غابت عن الوعي لفرط ما تعذبت وصرخت ألماً، والطبيب لا يجد مخدراً يسكن الألم، ولا خيوطاً للجراحة، نعم لا شيء لتسكين جراح الطفلة المسكينة ولا جراح كل هؤلاء سوي الصبر والعذاب، انهارت أمامي كل تفاصيل الحضارة والمدنية الأوروبية، لتتقلص في مشهد وحشي مجرد، لعنت كل تاريخ الحروب التي لا تقوم إلا للفوز بمغنم أو تكريس قوة أو سلب أرض، لعنت كل أسباب الصراع المادي في عصرنا، الذي تفرغ فيه جبابرة السلاح لاختراع كل أسباب الموت للبشرية ليكون البقاء للأقوي، في حياة باتت بفضل اختراعاتهم غابة ومقبرة للأبرياء راغبي العيش في سلام.
لم يكن للحديث أي معني وسط ركام العذاب والدماء والجراح والأطراف المبتورة وأصوات الألم، كانت الكاميرا تسجل ما رأت لتشرح للعالم ما يعجز عنه الكلام، لم نرغب في الذهاب للنوم بالمسكن الكائن بالمنطقة الصربية، كما طلب منا مرافقونا، من سيغمض له جفن بعدما رأي، فقصدنا مخيما للجوء، وهناك كانت تنتظرنا قصة وحشية أبشع من القتل، عاشتها طفلة بوسنوية مسلمة، فقد اغتصبها 9 من جنود الصرب أمام أمها، وهي لم تبلغ بعد التاسعة من العمر.. ولرحلة العذاب في ارض الحرب بقية.