غدا .. يبكى الجنوب تمزق أوصاله
فى أمسية عربية دافئة بدّدت الصقيع الهولندى، سألت دبلوماسيا سودانيا فى لاهاى أبان حفل استقبال أقامته إحدى السفارات العربية بمناسبة يومها القومى: " هل يمكن ان تحل يوما ما مشكلة الشمال والجنوب وتنتهى مخاوف الانفصال؟
نظر لي نظرة شاردة مفعمة بالأسى إلى علم بلاده المغروس على طاولة عريضة وسط الاعلام العربية ، وقال نعم ، يمكن فى حالة واحدة ، لو قضينا على ايادى الاستعمار الخفية التى تغذى مارد الانفصال ، وان نمد خطوط مواصلات سهلة بين الشمال والجنوب ليلتقى الجنوب بحضن الام فى الشمال .
نظرت اليه وانتابنى شعور لحظى أن دمعة انسابت على وجهه الاسمر، وهو يضيف بلهجة جادة " الاستعمار لم يسحب مخالبه من الجنوب منذ استقلال السودان، بل ابقى سمه الزعاف متوشحا بحملات التبشير والمعونات الانسانية، اما خطوط المواصلات، فلا يزال الشمال معزولا تماما عن الجنوب ، الشمال لدية آليات ووسائط حديثة للحياة والصناعة والحركة والعمل ، والجنوب متخلف صناعيا واجتماعيا ، رغم ما لديه من خامات وثروات طبيعية هائلة ، ولا يمكن نقل الثروات والخامات للشمال للاستفادة بها وافادة اهل الجنوب ، ولا نقل التقنية والتقدم الصناعى والخدمات الى اهل الجنوب فينعموا بها ، وهكذا ، فالشمال لا ينعم بما وهبه الله للجنوب وكذلك الحال بالنسبة للشمال .
كان هذا الحديث منذ اكثر من عقد ونصف من الزمان ، وما يثير العجب انه رغم ادراك السودانيين ساسة وشعبا المشكلة الحقيقة للجنوب على مدى العقود الماضية ، والسبب وراء حركة التمرد ودعاة الانفصال ، الا انهم تركو مارد الانفصال يتضخم دون اى حراك سياسى او شعبى حقيقى من الشمال ، لمواجة هذا المارد بفاعلية وايجابية بعيدا عن لغة الحرب والقمع والتهديدات .
لم يفكر النظام السودانى فى السعى الى حكومة ائتلافية وطنية تضم ساسة الشمال والجنوب معا ، حكومة تجمع المصالح ، ويتكاتف ساستها للعمل من اجل مصلحة الوطن ككل بجميع اطرافه ، على غرار الحكومات الائتلافية المنتشرة فى العديد من البدان الاوروبية ، رغم ما تضمة هذه الدول الاوروبية من اعراق واديان وفصائل سياسية .
بل تسببت الرغبة فى السلطة المطلقة والاستئثار بكرسى الحكم فى كلا الجانبين ، تسببت فيما آل اليه السودان الان من تمزيق للاوصال .
ويجب ان نعترف كافارقة اننا ساهمنا بدور جانبى فى عزل جنوب السودان ، وتركها فريسة للمستعمر بشكله الجديد ، فلم نسع كاخوة افارقة لدى الشمال السودانى بالنصح والمشورة ومد يد العون لانهاء عزلة الجنوب الذى يضم اغلبية مسيحية ، وتم ترك شعب الجنوب سواء من الداخل او الخارج الافريقى ، ليزرح تحت وطأة الفقر وسيطرة المستعمر الجديد ، رغم الكنوز والثروات الطبيعية بارضهم من الاخشاب ، الذهب ، والاراضى الزراعية والنفط ، تم ترك الجنوب كواحدة من افقر المناطق فى العالم ، ودعمت الحكومة المركزية السوداينة وقف تطويرها بصورة او باخرى ، ليشعر اهل الجنوب انهم مهمشون ، مواطنون من درجة اخرى غير درجة المواطن التى يتمتع بها اهل الشمال .
نعم ساهمت الحكومة المركزية السودانية على مدى عقود متعاقبة فى تهميش الجنوب ، وساهم الافارقة بالصمت والسلبية ، وتلقف البريطانيون الوضع لاستثماره لصالحهم ومن وراءهم صف من الدول الغربية الانتهازية الانتفاعية ، فتم تباعا وبكثافة ارسال بعثات التبشير لتنصير اهل الجنوب ، كما سعت هذه البعثات لتغريب ثقافة اهل الجنوب ، بنشر اللغة الانجليزية لتحل محل العربية ، ومنع انتشار الاسلام ، وبهذا باتت ارض الجنوب ممهدة وخصبة لنذر الانفصال ، بعد ان همشتها الحكومة السودانية وغربتها الايادى الغربية.
وفرح الجنوبيون وصدقوا الايادى البيضاء المتوشحة باسم الانسانية ، الممتدة لهم بالانجيل والطعام ، واغفلوا ان باطنها سم زعاف ، وان هذه الايادى ليست الا شباك لاصطياد خيرات البلاد ، وانها جاءت تصطاد فى الماء العكر لتزيده تعكيرا ، لتحقيق مصالحها النفطية وغير النفطية ، و تفيت جسد الام ، وهو هدف استعمارى ازلى وتاريخى لانهاك قوى الشعوب بتمزيق وحدة الاراضى .
وما فعلته بريطانيا والغرب فى السودان يعيد لذاكرة العالم ما فعله الغرب الرأسمالى بالاتحاد السوفيتى السابق " مع مراعاتنا للفوارق " ، فرغم الجدار الحديدى العازل لهذه الكتلة الشرقية القوية فى حينه ، نجع الغرب فى التغلغل للداخل ثقافيا واجتماعيا ، وتهيئة الشعوب الشيوعية لتقبل نذر الرأسمالية ، باثارة طموح الثراء والانفتاح على العالم الخارجى .
ولأن الثقافة بجانب الاقتصاد هى مقومات القوة لاى امه ومعيار لتماسكها ووحدتها ، فقد لعب الغرب على الطموحات الاقتصادية لمواطنى الاتحاد
وبعد مرور قرابة عقدين من الزمان على تفكك الاتحاد السوفيتى فى دويلات ، لا تزال هذه الدويلات تبحث لها عن موطئ قدم بين دول اوروبا الغربية ، تعيش على المساعدات والمعونات الغربية ، ولم تبن لها اقتصادا قويا يعترف به ، لم يحقق الغرب وعودة للشرق الاوروبى ، ولم يمنحه السنارة ليصطاد السمك او ختى يعلمة الصيد ، بل منحه السمك المعلب فقط ليقتات به ، وتحولت دول الشرق الاوروبى الى سوق استهلاكية لمنتجات الغرب ، ولم يفتح الغرب اسواق العمل لدية لمواطنى الشرق ، بعد ان لعق وعوده ، وتذرع بازماته الاقتصادية والبطالة التى تطحنه ، وهكذا وجد الشرق نفسه معلقا فى الهواء ، لا طال الشرق ولا وصل لاعتاب الغرب ، الا من باب طالب العون وطالب اللجؤ ، حتى الدول الاعضاء التى انضمت للاتحاد الاوروبى من شرق اوروبا ، مواطنيها من الدرجة الثانية ، وديون دول الشرق تزداد يوما بعد يوم ، وتعيش على مساعدات الغرب ، فاين هى الوعود .
اذكر تلك الحقائق المعروفة ، لأوكد ان جنوب السودان عليه الا يفرح كثيرا بنغمة الانفصال والاستقلال فى دويلة بعيدا عن الجسد الام ، فغذا يبكى الجنوب انفصاله ، كما بكى الجسد الام اليوم مزق اوصاله ، فلن يطول الجنوب شرقا ولا غربا ، بل سيكتشف بعد سنوات انه معلقا فى الهواء ، سيحوله المستعمرون الجدد الى عبيد ورقيق ولكن بشكل راق ، ليعملوا لديهم فى الشركات الاستمارية المنتجة للسلع الترفيهية التى ستعرف طريقها الى تلك البقعة الداكنه من افريقيا باقل الاجور ، سيتحول الجنوب الى سوق استهلاكي للمنتجات الاوروبية والامريكية من المعلبات والاغذية والملابس الجاهزة .
وستعرف قرى الجنوب الفقيرة محلات السوبر ماركت والمراكز التجارية المفعمة بسلع الغرب بجانب المطاعم الفاخرة والملاهى ، وسيتم اللعب على اوتار الرفاهية ، ولن يمنح الغرب هذا الجنوب تقدما ولا تقنية ،لن يمنحه سنارة ليصطاد او يعلمه الصيد ، سياتى له بالسمك المعلب ، و سيظل اهله يعملون تحت ايدى الخبراء والمستشارين الغربيين الذين ينهبون ملايين الدولارات كاجور لهم ، ولن يصبح خيرها لاهلها .
ستثبت الايام ان هذا الانفصال ليس الا تحويل لجنوب السودان الى مستعمرة غربية حقيقية ، مستعمرة فى منطقة هامة وحساسة من قلب افريقيا ، ويعلم الله الخطوة القادمه ، وكيف سيكون جنوب السودان نواة ونذر شر يمكن ان تنتقل اثاره الى دول جوار اخرى ، فقد سمحنا بتركنا الجنوب يرتمى فى احضان بريطانيا ، سمحنا بشوكة المستعمر القديم فى ثوبة الجديد لتغرس فى بؤبؤة عيوننا ، لقد اجرمنا جميعا فى حق الجنوب ، وكان علينا ان نفيق قبل فوات الاوان ، اكرر غدا يبكى اهل الجنوب وطنهم الام ، كما بكى جسد الام مزق اوصالة ، وعلينا جميعا ان نتعلم مما حدث فى السودان .