رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

غدا .. يبكى الجنوب تمزق أوصاله

فى أمسية عربية دافئة بدّدت الصقيع الهولندى، سألت دبلوماسيا سودانيا فى لاهاى أبان حفل استقبال أقامته إحدى السفارات العربية بمناسبة يومها القومى: " هل يمكن ان تحل يوما ما مشكلة الشمال والجنوب وتنتهى مخاوف الانفصال؟

نظر لي نظرة شاردة مفعمة بالأسى إلى علم بلاده المغروس على طاولة عريضة وسط الاعلام العربية ، وقال نعم ، يمكن فى حالة واحدة ، لو قضينا على ايادى الاستعمار الخفية التى تغذى مارد الانفصال ، وان  نمد خطوط مواصلات سهلة بين الشمال والجنوب ليلتقى الجنوب بحضن الام فى الشمال .

نظرت اليه وانتابنى شعور لحظى أن دمعة انسابت على وجهه الاسمر، وهو يضيف  بلهجة جادة " الاستعمار لم يسحب مخالبه من الجنوب منذ استقلال السودان، بل ابقى سمه الزعاف متوشحا بحملات التبشير والمعونات الانسانية، اما  خطوط المواصلات، فلا يزال الشمال معزولا تماما عن الجنوب ، الشمال لدية آليات ووسائط حديثة للحياة والصناعة والحركة والعمل ، والجنوب متخلف صناعيا واجتماعيا ، رغم ما لديه من خامات وثروات طبيعية هائلة ، ولا يمكن نقل الثروات والخامات للشمال للاستفادة بها وافادة اهل الجنوب ، ولا نقل التقنية والتقدم الصناعى والخدمات الى اهل الجنوب فينعموا بها ، وهكذا ، فالشمال لا ينعم بما وهبه الله للجنوب وكذلك الحال بالنسبة للشمال .

كان هذا الحديث منذ اكثر من عقد ونصف من الزمان ، وما يثير العجب انه رغم ادراك السودانيين ساسة وشعبا المشكلة الحقيقة للجنوب على مدى العقود الماضية ، والسبب وراء حركة التمرد ودعاة الانفصال ، الا انهم تركو مارد الانفصال يتضخم دون اى حراك سياسى او شعبى حقيقى من الشمال ، لمواجة هذا المارد بفاعلية وايجابية بعيدا عن لغة الحرب والقمع والتهديدات .

لم يفكر النظام السودانى فى السعى الى حكومة ائتلافية وطنية تضم ساسة الشمال والجنوب معا ، حكومة تجمع المصالح ، ويتكاتف ساستها للعمل من اجل مصلحة الوطن ككل بجميع اطرافه ، على غرار الحكومات الائتلافية المنتشرة فى العديد من البدان الاوروبية ، رغم ما تضمة هذه الدول الاوروبية من اعراق واديان وفصائل سياسية .

بل تسببت الرغبة فى السلطة المطلقة والاستئثار بكرسى الحكم فى كلا الجانبين ، تسببت فيما آل اليه السودان الان من تمزيق للاوصال .

ويجب ان نعترف كافارقة اننا ساهمنا بدور جانبى فى عزل جنوب السودان ، وتركها فريسة للمستعمر بشكله الجديد ، فلم نسع كاخوة افارقة لدى الشمال السودانى بالنصح والمشورة ومد يد العون لانهاء عزلة الجنوب الذى يضم اغلبية مسيحية ، وتم ترك شعب الجنوب سواء من الداخل او الخارج الافريقى ، ليزرح تحت وطأة الفقر وسيطرة المستعمر الجديد ، رغم الكنوز والثروات الطبيعية بارضهم من الاخشاب ، الذهب ، والاراضى الزراعية والنفط ، تم ترك الجنوب كواحدة من افقر المناطق فى العالم ، ودعمت الحكومة المركزية السوداينة وقف تطويرها بصورة او باخرى ، ليشعر اهل الجنوب انهم مهمشون ، مواطنون من درجة اخرى غير درجة المواطن التى يتمتع بها اهل الشمال .

نعم ساهمت الحكومة المركزية السودانية على مدى عقود متعاقبة فى تهميش الجنوب ، وساهم الافارقة بالصمت والسلبية ، وتلقف البريطانيون الوضع لاستثماره لصالحهم ومن وراءهم صف من الدول الغربية الانتهازية الانتفاعية ، فتم تباعا وبكثافة ارسال بعثات التبشير لتنصير اهل الجنوب ، كما سعت هذه البعثات لتغريب ثقافة اهل الجنوب ، بنشر اللغة الانجليزية لتحل محل العربية ، ومنع انتشار الاسلام ، وبهذا باتت ارض الجنوب ممهدة وخصبة لنذر الانفصال ، بعد ان همشتها الحكومة السودانية وغربتها الايادى الغربية.

وفرح الجنوبيون وصدقوا الايادى البيضاء المتوشحة باسم الانسانية ، الممتدة لهم بالانجيل والطعام ، واغفلوا ان باطنها سم زعاف ، وان هذه الايادى ليست الا شباك لاصطياد خيرات البلاد ، وانها جاءت  تصطاد فى الماء العكر لتزيده تعكيرا ، لتحقيق مصالحها النفطية وغير النفطية ، و تفيت جسد الام ، وهو هدف استعمارى ازلى وتاريخى لانهاك قوى الشعوب بتمزيق وحدة الاراضى .

وما فعلته بريطانيا والغرب فى السودان يعيد لذاكرة العالم ما فعله الغرب الرأسمالى بالاتحاد السوفيتى السابق " مع مراعاتنا للفوارق " ، فرغم الجدار الحديدى العازل لهذه الكتلة الشرقية القوية فى حينه ، نجع الغرب فى التغلغل للداخل ثقافيا واجتماعيا ، وتهيئة الشعوب الشيوعية لتقبل نذر الرأسمالية ، باثارة طموح الثراء والانفتاح على العالم الخارجى  .

ولأن الثقافة بجانب الاقتصاد هى مقومات القوة لاى امه ومعيار لتماسكها ووحدتها ، فقد لعب الغرب على الطموحات الاقتصادية لمواطنى الاتحاد

السوفيتى  ، وخلخلوا اوحلحلوا اسس الثقافة الشيوعية وهوامشها الاشتراكية ، فباتت الشعوب والارض ممهدة للتفكك والانفصال فى دويلات عدة .

وبعد مرور قرابة عقدين من الزمان على تفكك الاتحاد السوفيتى فى دويلات ، لا تزال هذه الدويلات تبحث لها عن موطئ قدم بين دول اوروبا الغربية ، تعيش على المساعدات والمعونات الغربية ، ولم تبن لها اقتصادا قويا يعترف به ، لم يحقق الغرب وعودة للشرق الاوروبى ، ولم يمنحه السنارة ليصطاد السمك او ختى يعلمة الصيد  ، بل منحه السمك المعلب فقط ليقتات به ، وتحولت دول الشرق الاوروبى الى سوق استهلاكية لمنتجات الغرب ، ولم يفتح الغرب اسواق العمل لدية لمواطنى الشرق ، بعد ان لعق وعوده ، وتذرع بازماته الاقتصادية والبطالة التى تطحنه ، وهكذا وجد الشرق نفسه معلقا فى الهواء ، لا طال الشرق ولا وصل لاعتاب الغرب ، الا من باب طالب العون وطالب اللجؤ ، حتى الدول الاعضاء التى انضمت للاتحاد الاوروبى من شرق اوروبا ، مواطنيها من الدرجة الثانية ، وديون دول الشرق تزداد يوما بعد يوم ، وتعيش على مساعدات الغرب ، فاين هى الوعود .

اذكر تلك الحقائق المعروفة ،  لأوكد ان جنوب السودان عليه الا يفرح كثيرا بنغمة الانفصال والاستقلال فى دويلة بعيدا عن الجسد الام ، فغذا يبكى الجنوب انفصاله ، كما بكى الجسد الام اليوم مزق اوصاله ، فلن يطول الجنوب شرقا ولا غربا ، بل سيكتشف بعد سنوات انه معلقا فى الهواء ، سيحوله المستعمرون الجدد الى عبيد ورقيق ولكن بشكل راق ، ليعملوا لديهم فى الشركات الاستمارية المنتجة للسلع الترفيهية التى ستعرف طريقها الى تلك البقعة الداكنه من افريقيا باقل الاجور ، سيتحول الجنوب الى سوق استهلاكي  للمنتجات الاوروبية والامريكية من المعلبات والاغذية والملابس الجاهزة .

وستعرف قرى الجنوب الفقيرة محلات السوبر ماركت والمراكز التجارية المفعمة بسلع الغرب بجانب المطاعم الفاخرة والملاهى ، وسيتم اللعب على اوتار الرفاهية ، ولن يمنح الغرب هذا الجنوب تقدما ولا تقنية ،لن يمنحه سنارة ليصطاد او يعلمه الصيد ، سياتى له بالسمك المعلب ، و سيظل اهله يعملون تحت ايدى الخبراء والمستشارين الغربيين الذين ينهبون ملايين الدولارات كاجور لهم ،  ولن يصبح خيرها لاهلها .

ستثبت الايام ان هذا الانفصال ليس الا تحويل لجنوب السودان الى مستعمرة غربية حقيقية ، مستعمرة فى منطقة هامة وحساسة من قلب افريقيا ، ويعلم الله الخطوة القادمه ، وكيف سيكون جنوب السودان نواة ونذر شر يمكن ان تنتقل اثاره الى دول جوار اخرى ، فقد سمحنا بتركنا الجنوب يرتمى فى احضان بريطانيا ، سمحنا بشوكة المستعمر القديم فى ثوبة الجديد لتغرس فى بؤبؤة عيوننا ، لقد اجرمنا جميعا فى حق الجنوب ، وكان علينا ان نفيق قبل فوات الاوان ، اكرر غدا يبكى اهل الجنوب وطنهم الام ، كما بكى جسد الام  مزق اوصالة ، وعلينا جميعا ان نتعلم مما حدث فى السودان .