عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أثر القرآن الكريم فى اللغة العربية(2)

بوابة الوفد الإلكترونية

استقرار اللغة العربية

على الرغم من أن التطور سُنَّة جارية فى كل اللغات، وأكثر مظاهره يكون فى الدلالات، إلا أن العربية ظلت محتفظة بكل مستوياتها اللُّغويَّة (صوتية صرفية نحوية دلالية)، وما تطور منها كان فى إطار المعانى الأصلية وبسببٍ منها.

ويزداد إدراك أهمية الاستقرار اللغوى الذى تتميز به العربية إذا ما تأملنا التغيُّر السـريع الذى يلاحق اللغة الإنجليزية (لغة الحضارة المعاصرة)، فنصوص الإنجليزية القديمة التى مر عليها قرابة ثلاثة قرون أصبحت عصيَّة على الفهم بالنسبة للإنجليزى المعاصر.

يضاف إلى ذلك ما نشرته مجلة نيوزويك تحت عنوان «تراجع الإنجليزية الفصحى الراقية على مستوى العالم والإحساس بالخطر من سرعة تغيرها»، ويتساءلون فى فَرْضِيَّة علمية لها ما يبررها: هل نحن (علماء الإنجليزية) أمام لغة جديدة؟

ولعلَّ هذا التغيُّر السريع هو الذى دفع علماء هذه اللغة إلى إعادة صياغة النصوص الأدبية المهمَّة عندهم مثل نصوص شكسبير بإنجليزية حديثة Modern English يفهمها المعاصرون بدلًا من الإنجليزية القديمة Old English.

فى حين أن العربى المعاصر يقرأ آيات القرآن الكريم فلا يحس معها بغرابة؛ ويكفى النظر إلى هذه الآيات: (وَالْعَصْـرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِى خُسْـرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر1-3).

لنتأمَّلْ هذه السلاسة الشائعة فى السورة، وذلك الوضوح الدلالى مع عمق المعانى، وذلك التناسق الصوتى المتمثل فى ختم الآيات بفاصلة الراء المقفلة بالسكون، وتكرار حرف الصاد بما فيه من تفخيم يتناسب وفخامة المقول، ويزيد من عُلُوِّ طبقته الصوتية مجاورة الراء المفخَّمة.. هذا بالإضافة إلى التدرُّج فى طول الجُمَل بحيث توحى بالانتقال بالخطاب من الشدة والقوَّة والفخامة البالغة فى الآية الأولى (وَالْعَصْرِ) إلى درجة أخف فى الآية الثانية، ثم تُختَمُ السورة بأطول آياتها، وكأنَّ فى ذلك إشارة إلى اللين والرفق بالمؤمنين الذين عملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.. إنك لتشعر مع هذا الامتداد والهدوء بزمان ممتد طويل يملؤه المؤمنون بعمل الصالحات واستمرار التواصى بالحق والتواصى بالصبر.

إن الجملة القرآنية تتألف من كلمات وحروف ذات أصوات يستريح لتآلُفِها السمع والصوت والنطق، ويتكون من اجتماعها على الشكل الذى رتبت عليه، نسق جميل ينطوى على إيقاع خفى رائع، ما كان لِيَتِمَّ إلا بالصورة التى جاءت عليها الآيات، وأى وجه من التغيير أو التبديل أو النقص أو الزيادة يضيع معه هذا الجمال والإبداع القرآنى.

تأمل قوله تعالى: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) (القمر: 11 - 14) وتأمل تناسق

الكلمات فى كل جملة منها، ثم دقق نظرك وتأمل تآلف الحروف الرخوة مع الشديدة، ومع المهموسة والمجهورة وغيرها، ثم أمعن فى تآلف الحركات والسكنات والمدود وتعاطفها مع بعضها، فإنك إذا تأملت فى ذلك علمت أن هذه الجمل القرآنية إنما صُبَّتْ من الكلمات والحروف والحركات فى مقدار، وأن ذلك إنما قُدِّر تقديرًا بعلم اللطيف الخبير، وهيهات للمقاييس البشـرية أن تقوى على ضبط الكلام بهذه القوالب الدقيقة.

ولذلك فإنه على الرغم من مرور أربعة عشـر قرنًا، لا يكاد الإنسان يجد صعوبة فى التواصل مع كلمات القرآن، وذلك فى كل المستويات اللُّغوية: (الصوتية، والصـرفية، والنحوية، والدلالية)، وهذه مزية عظيمة؛ أن تكون الأُمَّة موصولةً بتراثها الزاخر تفيد منه وتنتفع به.

وتأمُّلُ مزية استقرار اللغة العربية التى تفردت بـها عن سائر اللغات التى تغيرت وتبدلت تغيُّرًا وَتَبدُّلًا جعل من اللغة الواحدة لغاتٍ كثيرةً متباينة يجعلنا نتساءل: ما السبب وراء هذه المزية؟

هل يمكن إرجاع هذه المزية إلى أن اللغة العربية كانت لغة عالمية فيها كل ما تفتقر إليه الأمم فى كل الأزمنة والأمكنة من ألفاظ ومعانٍ وأخيِلة، بحيث يجد الناس فيها ما يفتقرون إليه؛ لذلك فهم يحرصون عليها؟!

وهذا بعيد؛ فما كانت اللغة العربية ولا غيرها كذلك.

أم أن مزية استقرار اللغة العربية ترجع إلى أهلها ومكانتهم الاجتماعية والسياسية والعلمية؟! والواقع يُكَذِّب ذلك؛ فقد كان أهل العربية فى وضع متأخر الشأن بجوار حضارتين عظيمتين هما حضارتا الفرس والروم، وفى حياتنا المعاصرة تتلاحق الهزائم بالعرب سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا.

وهكذا ينتهى بنا التأمل إلى أننا لا نجد سببًا مقنعًا لهذه المزية سوى أنها أثر من آثار القرآن الكريم، ووجه من وجوه إعجازه.

والحديث موصول إن شاء الله تعالى.

[email protected]