رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حكايات من سنوات النكسة

بعض المشاهد عن نكسة 1967 مازالت محفورة فى ذاكرتى منذ الطفولة، كنت فى الثامنة من العمر، تلميذا فى الصف الثالث بمدرسة قحافة الابتدائية، قريتنا كانت تبعد عن مدينة طنطا بكيلو متر واحد، لم تكن الكهرباء قد دخلت جميع منازل القرية، أغلب البيوت كانت تعيش على لمبة الجاز، رجال حارتنا والحارات المجاورة كانوا يتسامرون بعد صلاة العشاء بجوار دكان بقالة عم شبل، والشباب على مقربة مترين أو ثلاثة منهم، ونحن الأطفال على بعد مسافة مماثلة على ناصية الحارة.

أول صورة تستدعيها ذاكرتى مع ذكر كلمة نكسة صورة عبدالناصر فى تلفزيوننا(21 أو 25 بوصة ماركة نصر) يعلن تنحيه عن رئاسة البلاد ويؤكد رجوعه لصفوف الجماهير، كان حزينا ومتألما خلفه ستارة بها خطوط رأسية، كان التليفزيون فوق البوفيه فى صالة البيت، كنت اجلس على الأرض اسفل قدم والدى وأنظر لأعلى، بكاء وصراخ وهتافات كسرت ظلام وسكون القرية.
ــ سألت والدى: يعنى ايه تنحى.
ــ قال ودموعه تملأ وجهه: هيستقيل
ــ مش هيبقى الرئيس؟
عبدالناصر كان فى مخيلتنا البطل الذى لا يقهر ولا يهزم، البطل الذى يقف مع الفقراء والضعفاء والمرضى والمحتاجين والمظلومين، عندما كنا نلعب فى المدرسة أو فى الحارة ويتطلب اللعب أداء حركات صعبة أو مستحيلة، كنا نقول: لو كنت جمال عبدالناصر إعملها.
فى الصباح قالوا إن المظاهرات تملأ الشوارع فى طنطا وأن شباب ورجال القرية يلفون فى البلد منذ طلعة النهار يهتفون: بالروح بالدم نفديك يا جمال، لا تتنحي لا تتنحى، يا جمال يا حبيب بكره هندخل تل أبيب، قالوا: الأتوبيسات والقطارات ببلاش والناس بتركبها وبتروح مصر عند عبدالناصر، بيقولوا: هيشفوه بلحمه وشحمه في قصر عابدين.
فوجئنا فى أحد الأيام الدراسية بأن أهالى القرية يتجمهرون حول المدرسة، وقالوا إن إسرائيل سممت الوجبات الغذائية التى توزع على التلاميذ فى المدارس، وحكوا أن بعض التلاميذ فى طنطا وقرى مجاورة اصيبوا بالتسمم، ومنهم من مات قبل أن يتم اسعاف، كانوا يوزعون علينا قرص وجبنه نيستو ولبن بودرة، شاهدنا بعض الأهالى يقتحمون الفصول ويحملون أولادهم، أبله هدى كانت معنا فى الفصل وطمأنتنا مؤكدة انها مجرد اشاعات، أذكر أبلة هدى جيدا، كانت ترتدى فستاناً أزرق اللون، وكانت على وشك الوضع، بعض الأهالى دخلوا الفصل وقلنا لهم قد أكلنا القرص من فترة كبيرة.
بعد أيام بدأت قريتنا تستقبل سيارات نقل محملة بعفش وأسر قيل إنهم المهاجرون، الصهاينة دمروا بيوتهم ومدنهم، فى المنزل المجاور لمنزل العائلة سكنت أسرة من عائلة فتح الباب الدور الأرضى، كانوا من مدينة الإسماعيلية، سمعت بعض نساء القرية يشددون على عدم اقتراب الشباب والرجال منهم، وفهمت انهم يخشون من خطف الناس لأزواجهن.
انتقلنا من قحافة إلى عمارة

جدى لوالدي فى مدينة طنطا فى صيف عام 1968، والتحقت بالصف الرابع بمدرسة سيدي مرزوق الابتدائية بحي الصاغة، نبهوا علينا أن نطلى زجاج الشبابيك باللون الأزرق، أكدوا انه يخفى الضوء، وحكوا أن الطائرات الإسرائيلية تضرب المنازل المضاءة، سمعت من والدي أننا فى حرب الاستنزاف، عبدالناصر لم يستسلم للهزيمة وأعاد تسليح الجيش وجنودنا يقومون بعمليات يقتلون فيها الصهاينة، قصص بطولات جنودنا كانت الموضوعات الرئيسية لحوارات الناس، يقولون: إنهم يسبحون فى القناة ويعبرون إلى سيناء ويعدون أكمنة يقتلون فيها الجنود الصهاينة، أو إنهم يتنقلون فى الخفاء ويقتحمون المعسكرات ويفجرون مخازن الأسلحة.
لم أكن أعرف عن قناة السويس سوى ما جاء فى كتب المدرسة أن المصريين حفروها بالسخرة، وأن المئات من الفلاحين والفقراء ماتوا خلال الحفر، وأن قناة السويس تربط بين بحرين هما البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، أين هما؟، وما هو حجمه؟، لم أكن أعرف عن البحرين أكثر من أسمائهما، وأيامها لم تحفظ في ذاكرتي خريطة توضح مواقع القناة والبحرين.
سمعت بعض الحكايات عن الذين يختفون من الشباب والعمال، ويقال إنهم كانوا يقتحمون المنازل فى الفجر ويقبضون عليهم، كان الرجال والشباب يتبادلون الحكايات بحذر ويروونها بهمس، ما فهمته ان البوليس كان يقبض على المخربين والعملاء والخونة، فى احدى المرات سمعت احد أقاربنا يقول إنهم شيوعيون وكفرة، سألت والدي: هم شيعة سيدنا على كفرة، قال: الشيعى غير الشيوعي، والشيوعي ده اشتراكي يتبع روسيا، وحكي ما يميز بينهما، لكنني لم أحفظ مما قاله سوى أن الشيوعي مش هو الشيعي اللي بيحبوا سيدنا على.
بعد أن شاهدت جمال عبدالناصر يودع أمير الكويت فى التليفزيون قالوا: عبدالناصر مات، الشوارع امتلأت بالمسيرات، النساء ارتدين السواد، والشباب جابوا الشوارع يهتفون: الوداع يا جمال يا حبيب الملايين.. الوداع.

[email protected]