رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

محاكم التفتيش .. على الطريقة المصرية

منشور بسيط بخط اليد وضعه شاب على الفيس بوك من قرية محلة روح بمحافظة الغربية، يتضمن قائمة بخمسين اسما يدعو أهل قريته إلى مقاطعتهم، وملاحقة الإرهابيين المنشورة أسماؤهم. يحث المنشور أهل القرية على منع التعامل التجاري مع تلك الأسماء ،

ومقاطعتهم اجتماعيا، إلى أن يتركوا القرية أو يتولى الناس تأديبهم، باعتبارهم من مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي. صيغة المنشور، سبق أن رأيناها تتوزع عبر الانترنت تشمل قوائم شركات كبرى في المدن، تخبر الناس بأن تلك الشركات تابعة لرجال محمد مرسي، وتدعوهم لمقاطعتها. مرت تلك المنشورات سريعا، بعد أن تبين أن عددا من تلك الشركات تابعة لقيادات سابقة في حكومات مبارك ولم يلتفت إليها الشعب، فقد  فهموا من رسائلها أنها عبارة عن منافسة تجارية غير شريفة يدفع البعض بها، كي تصب في مصلحة طرف، على حساب الشعب ومصالحه العليا، خاصة بعد أن نشر أنصار للرئيس المعزول قائمة مقاطعة أخرى، تضمنت أيضا شركات لا علاقة لها بأي طرف من الأطراف. 
لم أدع رسالة محلة روح تمر مر السحاب، خاصة أنها تأتي من قرية صغيرة، أعرفها جيدا وعلى علاقة بكثير من شبابها، أعضاء لجنة الوفد بالغربية. وأعلم أن تلك القرية الهادئة، أهلها على علاقة مصاهرة وشراكة واسعة في الحياة والعمل اليومي، ومن المستحيل أن تجد شخصا ينتمي لتيار لا يقيم في مسكن به مواطن لا ينتمي لتيار سياسي آخر. وقد علمت من قبل أن هناك رسائل أخرى منتشرة في مناطق كفر حجازي القريبة منها،  التي أصبحت أحد أحياء مدينة المحلة الكبرى، وتتبعت تلك الرسائل التي تسببت في معارك دامية بين المواطنين، وخلقت ثأرا بين شباب القرى، بينما الدولة لم تشعر بأثرها ولا تدري مدى خطورتها. بعد مراجعة تلك القوائم مع شباب القريتين، تبين أن كتاب تلك المنشورات أدرجو أسماء مؤيدة للرئيس المعزول، بينما هم في حقيقة القول، من الرافضين له، وكثير منهم ينتمون للحزب الوطني، وعناصر نشطة به، وبعضهم ينتمي للتيارات العمالية اليسارية. ووجدنا أن عشرة أسماء فقط من بين الخمسين هم الذين يؤيدون الرئيس المعزول بينما الأربعون الآخرون وضعت أسماؤهم للكيد والتشهير بهم.
لم يكن المشهد غريبا على بر مصر هذه الأيام فوضع « محلة روح، وكفر حجازي لا يختلف كثيرا عن مئات القرى والمدن المصرية التي تشهد احترابا بين الناس، فأصبحت مطاردة الخصوم، لا تتوقف عند الكلمات، بل الملاحقة القضائية ومناشدة الجمهور أن يكون طرفا في ذلك الصراع. لذا لم يكن غريبا أن يتوجه عدد من المحامين ومواطنين، ببلاغات تتهم عدداً كبيراً من السياسيين والنشطاء، بالتحريض على القتل وقلب نظام الحكم والبلطجة. ويضع هؤلاء اسماء كبيرة في لائحة الاتهام، من بينهم الدكتور محمد الجوادي، والزملاء  خالد داوود، و بلال فضل وعمرو حمزاوي ووائل قنديل وغيرهم من عشرات الأسماء التي تتضمن رجال دين ونشطاء مثل اسماء محفوظ ووائل عبد الفتاح، والدكتور علاء صادق وأجانب مثل صاحبة نوبل « توكل كرمان». فلم يفرق هؤلاء المحامون والذين تدافعوا معهم، بين رجال ينتمون للفكر الليبرالي أو اليساري أو الذين يؤيدون الرئيس المعزول، بل وضعوا الجميع في سلة واحدة، مطالبين بقص رقابهم، وفي أبسط المطالب باسقاط الجنسية المصرية عنهم.
هكذا بكل بساطة أصبحنا أمام محاكم تفتيش، أفظع من محاكم التفتيش التي سادت أوروبا في عصور الظلام، لأن الأولي تدار عشوائيا وتنفذ أحكامها على وجه السرعة، بغض النظر عن خطورة النتائج المترتبة عليها، على أمن المواطن، ومستقبل الدولة، بينما في الحالة الثانية، كانت تدار عبر مؤسسة الكنيسة

التي كانت تحكم الناس مباشرة أو تتحكم في أمرائها، فالحكم يصدر بطرق رسمية، محددة المخاطر. في محاكم التفتيش تنتهي مساءلة المتهم إلى القتل أو الحرق ، فإن لم  يكن ذلك، فيودع وسط المجانين، بينما هنا أصبح المتهم مجرما حتى يثبت قتله أو جنونه. وأصبحت الملاحقات تتم لمجرد الشبهة، فها هم أصحاب الذقون الذين يربونها في الأرياف وبعض المناطق في المدن، كنوع من الوقار ولا ينتمون لأية تيارات دينية، يطاردون من العوام في الشوارع.
هؤلاء لم يتعرضوا لهذه الظاهرة في أحلك فترات حكم أمن الدولة، فالناس تعرفهم بالاسم والضباط يعلمون عنهم كل شىء، فلم يمسوهم أبدا بسوء إن السكوت عن هذه المحاكم الظالمة، يذكرنا بما فعلته الصحافة والنخبة السياسية في الولايات المتحدة، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبروز الحرب الباردة مع الروس. فقد أدخل السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي إلى القاموس السياسي كلمة « المكارثية» وهي تعني اغتيال الخصوم السياسيين عبر اتهامات بالجملة تطعن في شرفهم ووطنيتهم والتنكيل بهم واقصائهم. واستخدم السياسيون تلك الادعاءات لممارسة التفتيش في الضمائر وتلفيق الاتهامات والفضائح لإسكات الآراء المخالفة للحكومة ومن يعترض على المكارثية ذاتها، التي تستهدف تشويه صورة الروس وكل من يناصر أفكارا اشتراكية أو داعمة لحقوق السود والعمال. وخشى الإعلاميون مواجهة تلك الظاهرة، حتى لا يقعون في لائحة الاتهام بالعمالة للأجانب والعمل بالجاسوسية، التي لاحقت عشرات الحالات من الأسماء الشهيرة، وكبار الكتاب. لم تتحرر أمريكا من تلك الظاهرة، إلا بعد سقوط الرئيس نيكسون، الذي جرؤت الصحافة على كشف ما قام به ضد أعضاء الكونجرس والمعارضة، في أكبر فضيحة سياسية معروفة باسم « ووتر جيت».
باسم المكارثية، دخلت أمريكا حرب فيتنام، فخسرت وقتل مئات الآلاف من الشباب، وباسم الخوف منها، قتل الأمريكان منذ 50 عاما، داعية الأصلاح الأسود مارتن لوثر كنج، الذي طالب بالمساواة في الحقوق بين السود والبيض، وباسم المكارثية، قتلوا الرئيس كيندي، لأنه كاثوليكي، ويرغب في انهاء سيطرة شركات السلاح على القرار في الكونجرس، وباسم المكارثية، تنصت الرئيس الأمريكي على المعارضة وخصومه السياسيين. وعندما تحررت الصحافة استعادت مجدها في تنوير المجتمع ومحاسبة السلطة، وكشف الفساد، فخرجت أمريكا من سباق الحرب الباردة منتصرة، بينما محاكم التفتيش في روسيا قتلت الشعب، وعلمت من تبقى منه الخوف وقطعت العلاقات بين الناس فانتشر الفساد حتى سقطت الدولة برمتها.

[email protected]