عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

الحقيقة الغائبة فى «سد النهضة»

عجبت أن تصبح قضية «سد النهضة» الإثيوبى ساحة اشتباك سياسى بين المصريين. فأمر طبيعى أن نختلف حول قضايا الداخل، لأن كل حزب أو جماعة، بل لنقل الآن كل فرد، أصبح يملك رؤية مناقضة للآخر، ويعتقد أنه بمفرده صاحب الفكر الصحيح. رغم هذا البون الشاسع، فنحن نجتمع عندما نشعر بخطر خارجى، وتفرض علينا المخاطر أن يكون لدينا سقف من الخلافات، نتوحد تحته ونضع معا خطط ملاقاة الأعداء.

عندما أثيرت قضية «سد النهضة» الأسبوع الماضى بدت وكأنها هبطت من السماء فجأة. ظهر للقاصى والدانى أن حجم الخلافات التى أصبحت بيننا أكبر من أن يرتقها أمهر الساسة ولا يقضى عليها أفضل الزعماء. فيبدو فى الأفق أن البعض أحالها حرباً من الدرجة الأولى بين القوى السياسية، ودخلت فيها فضائيات ورموز إعلامية أشهد الله أن بعض من حاورتهم لا يفقهون شيئاً حيث فوجئت بأحدهم يطلب منى تعليقاً على إنشاء السودان لسد أطلقت عليه «سد النهضة». وسادت الدهشة عندما تلقيت بيانات من مرشحين رئاسة سابقين ورؤساء أحزاب يطالبون الدولة بأن تعلن الحرب على إثيوبيا فوراً، لأنها اعتدت على سيادة مصر وحجزت مياه النيل عنها، بينما اختلط الحابل بالنابل بين المفكرين والكتاب.
هذه الفوضى دفعتنى للعودة إلى الماضى، حيث فزعت مثل كل مصرى عندما قرأت منذ 4 سنوات تقريراً فى صحف أجنبية يخبرنا بأن الصين فى طريقها إلى بناء 8 سدود على منابع النيل تهدد بقيام حرب مياه فى أفريقيا. وتلقفت بعض الصحف الخبر ونشرته على أن إسرائيل ستقوم ببناء تلك السدود، لتضرب مصر فى مقتل. فجعت بأن الصحف تريد توجيه الخبر لمنحى آخر بعيد عن الجهة المعنية فى الخبر ذاته. وبحكم معرفتى الجيدة بالمسئولين فى السفارة الصينية بالقاهرة، توجهت إلى مكتب نائب السفير الأسبق وان كيه جيان، الذى تعلم العربية فى جامعة القاهرة، ويتحدثها وزوجته بطلاقة.
سألت المسئول الصينى: كيف تقول الصين إنها صديقة لمصر وتريد أن تكون بوابتها للتعاون العربى الأفريقى وهى تدمر منابع النيل وتسعى إلى بناء سدود تشعل بها حرب مياه فى المنطقة؟. جاءنى المسئول الصينى بملف كبير ووضعه أمامى وقال هذا الملف يتضمن المشروعات التى ستقيمها الصين على هضبة الحبشة وفى السودان. وأخبرنى بأن المشروع السودانى فى طريقه إلى الانتهاء حيث يقام سد جنوب الخرطوم لتوليد الكهرباء، وعدد من محطات توليد المياه بالطاقة المائية على فروع صغيرة لروافد النيل فى إثيوبيا، أشبه بهدرات المياه التى تقام فى دلتا مصر على الرياحات التوفيقى والمنوفى والبحيرى، وهى طاقة لا تكفى لإنارة قرية مصرية صغيرة ولا تحجز أية مياه خلفها. كشف لى الدبلوماسى أن الصين عندما طلبت منها إثيوبيا إقامة السد الأكبر اشترطت موافقة كل من السودان ومصر على المشروع. وتوجهت الصين بتلك الدراسات للحكومتين المصرية والسودانية وحصلت من الدولة المصرية عام 2009 على موافقة بالتنفيذ.
هذه المعلومات لم أسلم بصدقها تماماً، فرغم علاقاتنا الجيدة مع الدبلوماسى الصينى فإن ما يخص الأمن القومى للدولة، يوضع فوق كل اعتبار، فمصالح الدول لا تحكمها صداقات مهما علت درجاتها، ولا يفسدها شخوص مهما ارتقت وظائفهم. ظللت أردد السؤال لكل مسئول صينى أقابله فى القاهرة أو بكين وكان الرد متطابقاً، حتى حصلت على رسم هندسى بذلك السد من مسئول كبير أرانى إياه وقال هذا هو السد الذى تخشاه وهذا هو تعهدنا لمصر بألا يسبب أى ضرر لها الآن أو المستقبل، والذى وافقت على قبوله. وجود الجانب الصينى فى الموضوع وجه رسالة طمأنينة للنظام المصرى، حيث قبل الرئيس السابق حسنى مبارك أن يرأس اجتماعات المنتدى الصينى – الأفريقى الذى عقد فى شرم الشيخ فى نوفمبر 2009، والذى حضرته أكثر من 40 دولة أفريقية، بعد هذه التطمينات.
بدأ العمل فى مشروع سد النهضة فى ذلك الحين، ولم نسمع كلمة عن مخاطر المشروع إلا ما كتبه قلة من الخبراء، أبرزهم أستاذنا العزيز عباس الطرابيلى رئيس تحرير «الوفد» الأسبق الذى توجه فى رحلة إلى المنطقة مصاحباً وزير الرى الأسبق الدكتور محمود أبوزيد، فى إطار البحث عن حل لمشكلة مصر المائية ومناقشة تعديل اتفاقية توزيع حصص مياه النيل. عندما كان يتحدث الخبراء فى

الموضوع كان الجدال مثمراً. فمن غير المعقول ألا يكون لهذا المشروع الضخم أى أثر سلبى على مصر أو السودان أو إثيوبيا ذاتها، ولكن رغبة غير المختصين فى إقحام العوام فى القضية انحرف بالمناقشات عن مسارها الصحيح. لذلك نرى مذيعين ومذيعات احترفوا الكلام عن الموضة أو الرياضة وكلام الغمز واللمز وقد انبروا فى الدفاع عن حق مصر فى الرد على إثيوبيا، ولو وصل الحال إلى ضربها بالصواريخ. وأصبحت كلمة «سد النهضة» لا تذكر إلا على سبيل السخرية من الإخوان المسلمين والرئيس مرسى، بينما ضاع منا هدف حقيقى يمكننا أن نأخذه على النظام الحالى برمته.
فمن الواضح أن النظام الحالى يجهل الأزمة، وليست لديه قدرة على إدارتها، فيوحى للناس بأنه يناقش الأمر مع لجنة دولية خاصة. ويستدعى الرئيس وزير الدفاع ومدير المخابرات، وكأنه يعد مجلساً للحرب، ونعرف بعد ذلك أن اللجنة الدولية هذه لجنة استشارية، ستعلن رأيها فلا تقدم جديداً، ولن تحل مشكلة، وأن اجتماع الرئيس مع أكبر مسئولين عن الأمن القومى للبلاد، جاء لبحث الأزمة الأمنية فى سيناء. فنكتشف فى تلك الحروب الإعلامية بين القوى السياسية أن الحقائق المتعلقة بسد النهضة غائبة عن العيان تماماً. فمن المؤكد لدينا أن النظام السابق وافق على تنفيذ ذلك المشروع وبحثت لجنة من الأمن القومى المصرى ووزارة الدفاع تفاصيل السد منذ 4 سنوات، ومنحت وزارة الخارجية تفويضاً بالرد على إثيوبيا بأن مصر توافق على سد النهضة ولديها فقط مخاوف من المخاطر المترتبة على المشروع تتعلق بعضها بفترة تخزين المياه خلف السد التى ستستمر نحو 3 سنوات، وأخرى بيئية.
فالجيش المصرى وأجهزة الأمن القومى المصرى يعلمان تماماً أن العدو الأول للبلد يقع على حدودها الشرقية وليست إثيوبيا التى نرتبط معها بشرايين الدم التى يغذيها بالحياة نهر النيل العظيم. ورجالنا يعلمون أن إثيوبيا التى تضم نحو 50 مليون نسمة، لا تعرف عاصمتها الكهرباء على مدار الساعة بل فى أفضلها نحو 10 ساعات، ومن المستحيل فى دولة بهذا الحجم ومنعدمة الموارد البترولية والمالية أن تظل تعيش فى الظلام للأبد. ومن غير المقبول أن نتركها فريسة للتوغل الإسرائيلى الذى يسيطر حالياً على قطاع الزراعة الحديثة، حيث يزرع الصهاينة الفراولة والعنب والخضراوات لتصديرها إلى تل أبيب أو أسواق باريس ولندن التى يسيطر عليها اليهود حتى الآن. وليس من العدل أن نعيش نحن فى رغد من العيش ونترك جيراننا الذين احتضنوا صحابة الرسول الكريم حينما طاردهم أهلهم بمكة، جوعى ينتظرون المعونات الدولية.
ندعو الذين ينفخون فى النار بين مصر وإثيوبيا إلى التريث فى أحكامهم، فليس هكذا يرد الجميل. فلا نقابل الإحسان إلا بأفضل منه، وأن نحول مسألة خلافية إلى حرب البسوس، فإن لم نفز من إثيوبيا بغير النجاشى لكفانا منهم إحساناً؟
[email protected]