رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

المبشرون بحكم العسكر!

«المشكلة ليست في معرفة الحق, وإنما في قول الحق» حكمة تلقيتها في رسالة هاتفية من أحد الزملاء الذي اعتاد نصيحة محبيه صبيحة كل جمعة، على شكل تلغرافات هي أقرب للتصوف والزهد في الدنيا. أعجبتني الحكمة لأنها تأتي من رجل لا ينتمي لأي تيار سياسي وخلفيته عسكرية قديمة، ومازال يدير منصبا مهما في الدولة، ويعيش في حالة من الانضباط الوظيفي والديني البسيط، الأمر الذي يخرجه عن المألوف في زمن ساد فيه لصوص المال العام، ولم يعد يفرق البعض بين الغث والثمين.

ذكرتني الحكمة بما تمر به البلاد هذه الأيام، فكثير من الناس يملك حقائق ومعلومات خاصة من أمثالنا العاملين في حقل الإعلام، ولكن منهم، من لا يذكر تلك الحقائق، إما تحزبا لرأي أو خوفا من مسئول أو يلويها بغية الانتصار لرأيه ونكاية في الخصوم. لذا تضيع الحقائق في طريقها إلى الناس، لأنها تتشعب في الطرقات، وتنحي مناحي كثيرة، فتتلون بأهوائهم ورغباتهم المكبوتة، وعندما تصل إلى الهدف تصبح كائنا مشوها، لا يمكن التعامل معه. ونظرا لنسبة الجهل الكبيرة لدى العوام واعتيادهم على تلقي تلك السموم ببطء شديد، لا يمكنهم التفريق بين الغث والثمين، خاصة أن المصريين اعتادوا على سياسة التلقين في الرأي والتوجيه في الفكر، ووضع لافتة على صدور الناس تحدد هويتهم دون أن يعرفوا أن ما يصنعونه جريمة في حق أنفسهم ومن يرونهم خصوما بعيون الآخرين.
لم أجد أبلغ من تلك الحكمة التي قالها الزميل الجنرال السابق، عندما حضرت مناقشات الأسبوع الماضي، كان بعضها لأطراف متحدثين من كبار الصحفيين المنتظر أن يقودوا مستقبل المهنة في الفترة المقبلة. وجدت هؤلاء الزملاء ينادون بأن العسكر قادمون إلى السلطة، وذلك ليس حبا فيها، ولكن عن كراهية، لأن البلاد تتجه نحو مستقبل مظلم. هؤلاء يتهمون النظام الحالي للاخوان المسلمين وحلفاءه من التيارات الدينية، بأنهم يجرجرون البلاد إلى حرب أهلية، وفشلة غير قادرين على انتاج فكري يمكنهم من حسن إدارة الدولة وتوفير أبسط مبادئ الحريات والكرامة الانسانية التي انطلقت من أجلها ثورة 25 يناير 2011. ويرون أن الأحزاب الليبرالية والقوى المدنية الحليفة لها، لا تصلح لمواجهة المشاكل المستعصية في الدولة لأنها نتاج فترة الفساد السياسي، تبحث عن حلول توافقية، ولا تملك زعامات قادرة على التغيير وتحدي التيار الإسلامي المنتشر في الشارع المصري، والذي يعد في رأيهم متوجها نحو تطبيق النموذج الإيراني في إدارة الدولة.
وضع هؤلاء الدعاة أو ما أحب أن أطلق عليهم «المبشرون بحكم العسكر»، كثيرا من الحقائق المعلومة للجميع، في طبق من عسل لأن الناس تشاهد بأم عيونها حالة التردي السياسي الذي نعيشه، وتدهور أحوال المعيشة للمواطنين، ولكن الحقائق التي يغمسونها في العسل، أضافوا إليها كثيرا من السموم، ليلتقطها هذه المرة المهتمون بأمر البلاد ومن يعتبرون أنفسهم صفوة المجتمع وحملة أقلامه ومشاعل التنوير به، فيرددون تلك الأقاويل على أنها حقيقة دامغة لا صحة في غيرها. ترددت هذه الكلمات في الشارع المصري بسرعة البرق، لدرجة جعلت وزير الدفاع ومن حوله يوجهون رسائل مباشرة للمواطنين بأن الجيش لا يطمح ولا يطمع في العودة إلى السلطة، لأن له أولويات أعظم وهي حماية سيادة الدولة وأراضيها من الأعداء. لم تشفع كلمات وزير الدفاع المباشرة لدى هؤلاء المبشرين بعودة حكم العسكر، وظلوا على مدار الأيام الماضية يرددون نفس الأقاويل، وكأن حكم العسكر أصبح قاب قوسين أو أدني، لدرجة جعلت المواطن العادي يتقبل الفكرة بصدر رحب. بل هناك من الناس من يتشيع ويطالب بسرعة استيلاء العسكر على السلطة والإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين وإعادة الجماعات الإسلامية إلى السجون، حتى ترتاح البلاد منهم، كما كان في العهد البائد. وزاد الطين بلة أن غلاة المبشرين بحكم العسكر جعلوا كثيرا من الناس يترحمون على العودة بالبلاد إلى ما قبل الثورة. وبعضهم يعتقد أن حكم العسكر إذا ما جاء على وجه السرعة يمكنه أن يخرج حسني مبارك من ظلمات السجن إلى القصر الرئاسي من جديد، ويحل مشكلة النظام السياسي، بإنهاء الدستور الحالي وإلغاء كل القوانين التي صدرت بعد الثورة فتصبح صفحة النظام الحالي بيضاء ونفكر في انتخاب رئيس جديد، يحدد عبر آليات نظام حسني وشركاه.
نجح دعاة حكم العسكر بما لديهم من حقائق أن يخلقوا شكلا جديدا من الحقائق، نشروها في المجتمع فأصبحت الرؤية الضبابية لدى المواطنين تتجه صوب لون واحد. فالناس لم تعد في تلك الرؤية الجديدة «سودا» لأنها لم  تعرف الألوان الحقيقة ولا أية ألوان أخرى. فالحقائق التي أمتلكها دعاة حكم العسكر من وقائع تتعلق بالنظام الحالي أو المعارضة، بعضها صحيحا، ولكنهم لم يقولوا كافة الحقائق للناس. فليس من العدل أن نذكر كل عيوب النظام الحالي، ولا نقول إن الثورة التي جاءت بهذا النظام عبر انتخابات واستفتاءات منحت الحرية للجميع لدرجة جعلت أي مواطن قادراً على سب رئيس الجمهورية وكافة الوزراء في الصحف وأمام أجهزة الإعلام الرسمية والخاصة، دون أن يتعرض له أحد بسوء. ونسى هؤلاء أن أحد المواطنين في كفر الدوار وعالم كبير في جامعة عين شمس فكرا في أن يتقدما بالترشح لرئاسة الجمهورية في مواجهة رئيس الجمهورية المسجون حاليا، فكان مصير الأول السجن والطرد من الوظيفة العامة، والآخر ملاحقة أمنية فطفش من البلاد. وتجاهل هؤلاء أن المشاكل التي نشأت في الأحزاب الليبرالية والمجتمع المدني بسبب تدخل أجهزة أنظمة الفساد السابقة، في كل صغيرة وكبيرة داخل تلك المؤسسات، لدرجة جعلت بعض قيادات هذه المؤسسات صناعة أمنية باحتراف، وأن وجود هذه الفئة من الناس لا يعني أن المرض الذي بداخل المعارضة غير قابل للشفاء في ظل أجواء الحرية التي يتمتع بها الجميع. ولم يفكر دعاة حكم العسكر في أن مواجهة المرض داخل النظام والمعارضة، لا يعني قطع رقبة مصر على يد حكم عسكري جديد، وأن التفكير الذي يجب أن نعلي من شأنه، هو تشخيص الأمراض التي أصيب بها مسار الثورة، وعلينا أن نعالج المرض في غرفة انعاش وطوارئ، لإعادة الحياة إلى الجسد الساخن، وليس بتر الأطراف أو تمزيق الجسد بسلاح ميري، من أجل التخلص من الوباء الذي أصبنا به.
على المبشرين بحكم العسكر أن يعرفوا أنهم عندما يضعون سماً في العسل ليشربه المصريون، سيكونون أول من يتضرر منه، وليس بالماضي البعيد بخاف على أحد.. فهل نسى هؤلاء أن تأميم الصحف التي أصبح العاملون بها يتنقلون من الكتابة إلى بيع الأدوات المنزلية والأحذية بسبب طغيان الحكم العسكري، ومصادرة حرية الرأي بزعم حماية الثورة، ثم مصادرة الملكية وعقول صاحبة الجلالة، ثم الشعب بأسره؟. هل يتذكر هؤلاء الشباب أن ما دفعه جيل أساتذة الصحافة من ثمن باهظ مس أجسادهم وأولادهم، وراء النكسة الأخلاقية التي تعيشها البلاد حاليا، ومن فساد سكتت عنه الصحافة وشاركت في صناعته بعض وسائل الإعلام؟. عادة ما يكون المبشرون دعاة حق، فعلينا أن نقول الحقيقة كاملة وإن أغضبت السلطة أو لم تعجب الناس، طالما نبغي من وراء الحق نصرته، ونعتقد أننا في طريقه لوجه الله.

[email protected]