رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مات صديقي فأصبحت بقايا إنسان!

 

اختطف الموت كنزي الذي ادخرته أيام الصبا عصا أتوكأ عليها في خريف العمر، واقتطع نصف جسدي الأيمن حيث تسكن الملائكة، فطارنصف عقلي ونصف قلبي ونصف ضلوعي ونصف الرئة القادرة على تنقية هواء الدنيا الملوث بكل الموبقات تركني صديقي  حطام بشر وبقايا إنسان به النصف الأسوأ في كل شىء حيث تعشش الوساوس والشياطين، ونقط العقل السوداء، والدم الأزرق الباحث عن ذرة أوكسجين، ورئة متهتكة غير قادرة على التقاط الأنفاس. مات صديقي الأوحد.. الذي كان يمشي أمامي فيصبح نور العين الذي يضيء لي الدنيا، والسيف الذي يحمي قلبي والبسمة التي تعلو شفتي، فإذا سار ورائي يصبح الدرع الحامية لظهري، وجيشي الذي أحتمي به من غدر الزمان والأعداء والرفاق، فإذا حازاني، فتارة  هو الأب الحاني الذي يحتضنني بين جناحيه، وتارة الأخ مهاب الطلعة طويل القامة قوي الشكيمة وعزي الذي أفخر به، وهو في كل حين، الصديق الوفي الذي أتباهى به في دنيا البشر التي خلت من بعده من الأوفياء.

آه .. آه  يا صديقي.. يا حبيبي.. يأ أخي يا رفيق الدرب فعلتها واستسلمت للموت قبل أن آذن لك أو تخبرني بأنه قادم إليك كي أدفعه عنك أو أموت دونك. فليس هذا ما اتفقنا عليه عندما بنيت القبر الذي حلفنا أن يضم جسدينا، ليصهره أديم الأرض، فتصبح عظامنا النخرة، عظم واحد، وشحومنا ولحومنا المتحركة في هيكلين جسد واحد كما كنا نريد في الدنيا. ياصديقي ما اتفقنا على الفراق.. فقد سمحت لك بأن تسافر في إجازة قصيرة عدة أيام بل عدة ساعات بعد أن ضاق صدرك من هم الدنيا، وأردت الانفراد بفسحة من الوقت مع أولادك، تقضيها لأول مرة منذ سنوات، حتى يكونوا على مسافة قريبة من قلبك. ما وافقت لك على أن تتركني وحيدا أتجرع نار الوحدة الموحشة، ومرارة الفراق، وضغوط العمل التي أودت بحياتك وأنت في ريعان الشباب. لماذا أخلفت وعدك لي بأنك ستكون حامل نعشي ومودعي في القبر وراعي أولادي، فأنا أكبر منك سنا وأولي منك بالموت؟!.

آه .. آه يا ابن القاضي، تموت قبلي وتتركني في هذه الظلمة الموحشة، فلم أعد أملك سوى جسد محطم وشريط من حكايات لن يراها من حولي، تدفعني تارة للضحك وأخرى للبكاء، فأبدو كالمجنون. أتتذكر يا عادل كيف التقينا للمرة الأولي.. فأنا لا أدري حتى الآن..كل ما أعرفه أننا تقابلنا على طريق واحد بين مدرجات كلية الإعلام منذ 30 عاما، فإذا بهذا الطريق، يصبح كالقضبان التي تدفعنا سويا إلى مقعد واحد  في قطار يتخبط بنا في الدنيا، فتارة يرفعنا وأخرى يهوي بنا في واد سحيق، على أمل أن يكون الطريق الذي سرنا عليه هو الصراط المستقيم الذي سنمشي عليه من الدنيا للأخرة.

الآن أخبرك يا ابن القاضي أن طريق الأشواك  الذي كنت تمشي عليه في هذه الدنيا قد دفعت عليه رسوما غالية لم أخبرك بكل تفاصيلها، فعندما طردت من المدينة الجامعية في السنة الثالثة بعد حصولك على تقدير جيد جدا، كانت تهمتك الوحيدة التي أخبرنا بها ضابط أمن الدولة أنك صليت ذات مرة في مسجد يرتاده " إسلاميون وإخوان مسلمون". وعندما طرد أخوك الضابط من وزارة الداخلية بسبب ظاهر هو علة في صحته وانفعالاته الزائدة، كان الهدف من وراء ذلك تأديبك لأن الأمن وجد فيك الصحفي المشاغب والمسئول غير المتعاون بل كان مصمما على أنك أحد المنتمين للإخوان المسلمين. فعندما توجهت ذات مرة بشكواك لإحدى قيادات الداخلية قال لي: أعلم أنكما أصدقاء، ولكن لماذا القاضي فأنت رجل ليبرالي بالوفد وهو من جماعة الإخوان: قلت له الآن علمت يا ضباط أمن الدولة أنكم فعلا تأخذون معلوماتكم من " بتوع البطاطا" فلا أنا وفدي بالمفهوم الذي تحسبونه رغم عملي بالجريدة وعضويتي بالحزب، ولا هو من الإخوان المسلمين". فقد كان قلبك يا ابن القاضي أكبر من الإخوان وأوسع من كل التيارات الإسلامية، وفكرنا يضيق صدرا بالوفد عندما تتعارض السياسة مع ما نؤمن به وحبنا لذرات تراب الأرض التي نمشي عليها في الوطن. صنفوني ليبرالي لأني ـ كما كنت تكره ـ أسب وألعن من يضايقني أو يتحرش بي، بينما أنت إسلامي وإخواني لأنك كنت متسامحا مع الغادرين عفوا عن اللئام والماكرين، كنت لا أجد غضاضة في الجلوس على طاولة من يشهرون عداءهم للدين باسم الحرية والليبرالية، بينما كنت تتجنبهم وتتحاشى أن يدفعوك إلى هاوية

المجون. هكذا كانت اللافتة على صدرنا بأنك إسلامي وأنا ليبرالي، رغم أن قلبنا واحد، ولكن لسانك الطاهر الذي لم  ينطق أبدا بسوء كان مؤشرا بوضعك في خانة الخطيرين على الأمن والنظام، بينما لساني المنحل في كثير من الأحيان يحميني من بطش السلطة وغضب المسئولين.

الآن يا عادل آمنت بأنك كنت على الحق، فلم تنفعن الشتائم، ولم تضرك المكائد، وأن الأمور تسير بمقادير لا نعلم أسرارها ولا غاياتها، ومتى تبدأ وكيف تنتهي؟. فكم  من ماسك بالمصحف أيام الجامعة كان ينهرنا عندما نطير كالفراشات وفيروز تغني ونشغل الكاسيت الذي أرسله أبوك أثناء عمله مدرسا باليمن، البرنامج الموسيقي فنسمع روائع يوهان اشتراوس وبيتهوفن وعبد الحليم، ثم نصلي خلف الشيخ محمد حسان المغرب والعشاء، ونعود لغرفتينا تخطف مني الزبادي وأجري وراءك كالصبيان. تنتهي المعركة اليومية بأن نجتمع معا لنضرب زميلنا عبد العليم  أو محمود حسونة، لأنهما أردا قطع لهو الصبية الذي يحلو لنا ممارسته في المدينة الجامعية وبين المدرجات. كنا ننام على سرير واحد نرسم خيوط قصة حبك لفتاة عمرك وزوجتك وكيف نحل مشاكل أسرتينا وأصدقائنا. أتذكر يا عادل حامل المصحف هذا عندما  ألقى به أرضا وقال بعد التخرج: إذا أردت العلى فعليك بكأس المدامة ومجالسة أصحاب الفلوس والرءوس، وكيف قابلنا هذا الرأي بشراسة، فإذ بأمثاله يعلون في الأرض ونحن نشق طريقنا كمن يحفر في الصخر، وتنهال عليهم الأموال من كل صوب، بينما تدفع أنت 14 عاما من الغربة 5 سنوات في السعودية لشراء شقة صغيرة، و4 أخرى لامتلاك سيارة، ثم تذهب للإمارات 4 سنوات لفرش الشقة وعامين آخرين لتجديد السيارة وتعود بعد شقاء العمر خالي الوفاض لا تملك من حطام الدنيا سوى دراهم معدودات ندفع منها اتاوات للضرائب والتأمينات والوفد والدائنين. الآن أقول لك إنك كنت الرابح في معركة الحياة، فلا دوام لشهرة ولا قيمة لمال، بعدما رأيت في قلوب محبيك ومشيعيك.

أعذرني يا صديقي إذا قلت لك اليوم إني كنت أحسدك، أحسدك على صبرك الجميل على كل من ظلمك ومن أساء إليك عن قصد، حتى صبرك على من ظلموني ووقفت تدافع عني بشراسة وطيب خلق، بينما كنت أصب لعنتي عليهم وأفضل مواجهتم بالشتائم. أحسدك لأني لا أملك قلبا طيبا مثلك قادرا على التسامح إلى هذا الحد، ولكني أعدك اليوم بألا أسب أو ألعن أحدا، ليس لأني فقدت مصدر قوتي ودرعي التي كانت تحميني، بل لأني أريد أن ألحق بك حيث أنت. فالطهر الذي عشت به مثواه الجنة، وكنت أيام ملاعناتي أراك فأجدد إيماني، وأنا اليوم افتقدك فمن سيعيد لي هذا الإيمان، ويضمن لي أن ألحق بجوارك. يا عادل يا ابن القاضي.. سأظل أناديك هكذا كما أحب أن أناديك إلى أن ألقاك، ويقيني اليوم أنك بجوار ربك راضيا مرضيا، فادعو لي بسرعة اللقاء قبل أن يتحلل جسدك وتتجمد عظامك، فأنا بدونك في الدنيا أشلاء بشر وبقايا إنسان.

[email protected]