عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

سلاح الشعب في يد المجانين!

فوق جنزير الدبابة نامت طفلة صغيرة، وبجوارها أخوها يلهو بينما الأب يتظاهر تحت فوهة المدفع الضخم. المشهد الذي رأيته عدة مرات، في جمعة الوفاء والنصر، أول أمس وقع أمام عيني في ساحة التحرير، في نفس النقطة التي كنت بها يوم جمعة الغضب 28 يناير. بعودة للوراء تذكرت تلك اللحظات الفارقة في تاريخ البلاد، وتساءلت كيف خطر علي بال تلك الطفلة أن تنام في وداعة بين جنازير دبابات، بينما كان الرعب يحيط بنا عندما كان الأمن المركزي يشهر في وجوهنا العصي والقنابل المسيلة للدموع وطلقات الرصاص المطاطي؟!.

تردد السؤال في مخيلتي وهي تسترجع تلك الساعات الحالكة، ونحن محاصرون بين الشوارع الضيقة وفي مداخل العمارات وسط القاهرة، نختبئ من طلقات قوات الأمن التي كانت تصوب نحو صدورنا والهراوات التي انهالت علي أجساد البنات والشيوخ بلا رحمة. أحسست بالغثيان كلما استرجعت صوت رؤوس الشباب وهي تنفجر تحت عجلات الأمن المركزي، والصدور التي هتكتها طلقات النار الحية والبلاستيكية، وحناجرهم وأعناقهم وأفواههم التي كانت بمثابة نقاط التصويب لحملة البنادق والرشاشات  من ضباط وجنود الشرطة.  بمراجعة ملف الأحداث في الذاكرة، وجدت أن المكان الذي كنا فيه، علي أطراف ميدان التحرير، لم يكن الأسوأ علي الإطلاق، فحوله وجدنا العربات المصفحة تدهس خيرة شباب مصر علي كوبري قصر النيل، وأخري تحصدهم حصدا في شارع قصر العيني، وثالثة كانت سيارة اسعاف يقودها ضابط يحمل بداخلها ذخيرة حية علي مقربة منا نزعت روح شاب، وخلعت رجل طفل صغير كان حاضرا في الميدان ليلة 28يناير. انتقل شريط الأحداث في الذاكرة إلي المشاهدات التي تابعها عن بعد، حيث القتل الجماعي للمتظاهرين في شوارع السويس والاسكندرية، والمساجين العزل في السجون ومن رفض من الضباط الالتزام بقوانين البلطجة والفساد، التي أدارها وزير الداخلية المخلوع.

كلما هرب العقل من الميدان وجدته يحفر في داخله المشاهد القاسية، حينما ركز البصر رؤيته علي الضباط  والجنود المدججين بأحدث الأسلحة لضرب وقتل شعب مسالم وضعوه عنوة في قائمة المشاغبين، المطلوب تأديبهم بقوة السلاح، وحولهم جو مسموم مشحون بغبار القنابل المسيلة للدموع التي تحرق جلد الوجه والرئتين وتعمي البصر وتثير الغثيان. هذه المشاهد جعلت المرء يدرك كيف أصبح سلاح الشعب في أيدي حفنة من المجانين؟!.

لقد أيقنا وسط التظاهرات السلمية أن ضباط الشرطة ورجالهم أصبح في عقولهم خللا يجعلهم يتخيلون أنهم أمام عدو في الميادين والشوارع التي نعيش فيها سويا وكنا نتقابل فيها من قبل كأصدقاء أو معارف أو شركاء في الوطن. تحول الشعب في نظر هؤلاء إلي حفنة من الحثالة التي يجب أن تسحق لمجرد أن قادتهم علموهم أن الخروج علي السلطة  كفر بالوطن وخيانة للرئيس. لم يعد هؤلاء يفرقون بين الخروج السلمي علي سلطة فاسدة وحمل السلاح في وجه النظام. لم يفكر هؤلاء في أن الضربة التي يوجهونها للشعب سترتد إلي نحور أصحابهم أو أقاربهم أو مواطنين عزل يدفعون لهم رواتبهم، لذا استباحوا دم الناس بهذه البساطة، فكان التقتيل يتم عمداً مع سبق الاصرار والترصد.

فلسفة رجال الشرطة بالضرب في المليان لم تظهر في ميدان التحرير فجأة، بل كانت تطبيقا لمنهج تربي عليه جيل كامل من الضباط، الذين تعلموا في أكاديميتهم أن هذه هي الطريقة الوحيدة لكسر شوكة المواطنين. لم ينج من ادمان هذا السلوك غير السوي إلا قلة من الضباط المحترمين الذين تربوا في بيوتهم أو نجاهم الله من الوقوع في شرك الفاسدين في جهاز توغل الفساد في كل شبر فيه. فقد استغل بعض الضباط محاربتهم للجماعات الخارجة علي النظام والمتهمة بارتكاب جرائم متطرفة في بث روح الانتقام داخل نفوس الضباط، ونقلوها بالتبعية إلي جنودهم، واستغل وزيرهم المخلوع تلك القضايا في إثارة الفزع داخل كل ضابط بألا يبقي في مكانه إذا لم ينتهج طريقته في التعامل مع المواطنين.

لاحظنا خلال العقود الماضية أن جهاز الشرطة يتضخم كماً ونوعاً كلما مرت البلاد بحادث ارهابي، فنشهد زيادة في طلب الأموال لشراء أجهزة مكافحة الشعب والإرهاب. وباسم الارهاب تدفع المخصصات السرية لبناء المزيد من السجون،

وتبيع الداخلية أراضي الدولة لتمويل بناء مقرات أمن الدولة والأمن المركزي في المحافظات، وترفض مع ذلك مراجعة حساباتها أو عرض مصروفاتها وأعمالها علي اللجان المختصة في البرلمان والأجهزة الرقابية. تحولت تدريجيا من جهاز مدني يخدم الشعب إلي جهاز عسكري في يد النظام يضرب به الشعب ثم تحول إلي أداة في يد الحزب الحاكم لضرب الأحزاب وخصومه من السياسيين. فلم تسؤ المعاملة مع الساسة أو القضاة أو الصحافة، بل امتدت إلي باقي خلق الله في الدولة عدا البلطجية الذين أصبحوا يحصلون علي دعم معنوي وسلطوي من رجال الشرطة الذين يحمونهم، خاصة أيام الانتخابات والمناطق الشعبية والمتطرفة.

فرضت أجهزة الشرطة قبضتها علي أعناق الناس، ومع ذلك مدت يدها لتطلب المال من الفنادق وشركات السياحة وأصحاب السيارات وشركات الكهرباء والبترول والجوازات والجمارك، وفي ساعة الجد اختفي كل هؤلاء من الشوارع يوم 28 يناير، فلم نجد ضابطا أو شرطيا يحمي المكان الذي كان يأكل من خيراته طوال سنوات. سقط السلاح من أيدي المجانين أمام صيحات الغضب في الشوارع التي اهتز لها عرش النظام، وبقي الشعب الأعزل مرفوع الرأس، بينما الجيوش التي تشكلت علي مدار سنوات دخلت الجحور، بعد أن قتلت ما قتلت  من زينة الشباب وخيرة رجال مصر.

المشهد المتكرر أمام الذاكرة، جعلني أعيد التفكير في أسباب ارتماء المصريين في حضن الدبابات  ورجال الجيش، بهذه البساطة، رغم أن حامل السلاح الأول كان أقل نوعية ومصري الهوية، بينما الثاني  مصري بسيط يقود دبابة أو عربة مصفحة يمكنها أن تدك آلاف البشر ومئات العمارات. قد يكون الوعي لدي الطفلة قليلاً بما يجعلها لا تدرك مدي خطورة الأمرين، ولكن ما حال الملايين التي نامت في ظلال الدبابات وعربات الجيش لمدة عشرة أيام بينما لم تستطع الوقوف أمام جحافل الشرطة لساعات؟!.

هذا السؤال لن أجيب عنه، بل عليك وحدك أن تدرك أسبابه، بشرط ألا تكون من الذين ينسون ظلمة الماضي، أو من الراغبين في العفو عن السفاحين. فعندما تظاهر بعض ضباط الشرطة طلبا للصفح والغفران وفتح صفحة جديدة مع الشعب، وإن كان فيها بعض ذوي النوايا الطيبة، لن يغير ذلك من الأمر شئ. فمن تربي علي شيء شاب عليه، وهذا الجيل من الضباط تربي علي سحق الشعب وخطف لقمته من فمه عنوة، ولن يعود إلي فطرته التي فطره الله عليها بهذه البساطة إلا بعد تطهيره وثبات توبته. إن تغيير شعار الشرطة لتصبح في خدمة الشعب، ليس نهاية المطاف، بل مجرد بداية لتوجيه الضباط لأن يكونوا في خدمة الناس بدلا من أن كانوا خدام سلطة فاسدة أفسدت أخلاقهم وخلقهم، ووضعت أسلحة في أيديهم بعد أن حولتهم إلي قتلة مجانين.