عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أراد الشعب.. فأسقط النظام

لا يستطيع عاقل على الكرة الأرضية أن يتخيل منذ أسابيع أن مصر كانت على موعد مع ثورة شعبية بهذه القوة الجبارة. فرغم الظلم والفساد الذي بدأ من القمة إلى قاع المجتمع، فإننا كنا نرى سكونا عجيبا في شخصية المصريين. لم تكن المظاهرات التي تخرج بين الحين والآخر تطالب بحق العمال والمدرسين أو تنادي بتعيين العاطلين أو أنصاف المعاقين، تمر أمام أعيننا إلا في إطارالاحتجاجات الشعبية على واقع أليم يعصر العديد من طوائف الشعب.

لم نكن على قناعة أن ثورة بهذا الحجم ستهب من شعب نراه على الملأ أكثر خضوعا، بل كانت تقوده حفنة من البشر يحفزون كل من حولهم على الخنوع، وتلبية رغبات أولي الأمر بالسمع والطاعة ولو كانت تهوي بهم إلى جهنم. فالبلاد التي كانت تتسع للجميع لم يكن فيها قدم لصاحب رأي، ممسوكة عبر أجهزة أمنية عتيدة، تهوى تعرية أسرار البيوت والإمساك بدفاتر الناس كي تصنفهم على أهوائها وتحركهم على راحتها وتدفع بهم في الطريق الذي يحلو لها فإما طوعا وإما كرها وإما تقذف به إن لم يكن في السجون فإلى العيش على هامش المؤسسات والمجتمع.

خلال سنوات طويلة من حكم مستبد كان يتجه بالبلاد إلى مستقبل أكثر سوادا، تحول نواب الشعب إلى دمي في يد أنفار في الحزب الحاكم، وأصبحت مقادير الأمة تخدم الفاسدين، ويحرم الناس من الحصول على أبسط حقوقهم في عمل كريم وحياة نظيفة خالية من المحسوبية والرشوة .كانت الكتابة عن هذه النوعية من الممارسات نوعا من الكفر، تزج بنا في المحاكم والنيابات، تدفع البعض إلى السكوت وآخرين تلقى بهم داخل السجون. كان الحزن يتسرب إلى نفوسنا تدريجيا على مصر المنهوبة خيراتها، ونحن نرى قوانين تخطط لخدمة أشخاص واتفاقات دولية تمرر من البرلمان، لتدفع بالمال نحو شركات وشخصيات بعينها، ومناصب توزع على أناس محددة الأوصاف والاسم فلا نملك إلا الكتابة عما تقدر على نشره أو الموت غيظا وكمدا.

كنا نرى الفساد جسدا نتنا يتحرك في جنبات البرلمان والوزارات والمؤسسات العامة، ووصل به الحال إلى المؤسسات الخاصة التي أصبحت تتماشى مع الأوضاع في البلاد، طمعا في الاستمرار أو نيل جزء من الكعك العفن. شاهدنا شخصيات تصنع بعضها أمام أجهزة الإعلام وتتشابك في حلقات فولاذية، تمنع اختراقها وتحول دون دخول أحد في دوائرها إلا بعد أن ينغمس مثلهم في ملذات سرقة أراضي الدولة والمال العام وتبجيل عناصر النظام.تابعنا صعود شخصيات لم تكن تملك قوت يومها، فإذا بها تمتلك الملايين، بل المليارات في سنوات قليلة لمجرد اتصالهم بالسلطة وحمايتهم من أجهزة الأمن.

كنا نتجه تدريجيا نحو نسيان ما آمنا به من قيم النزاهة والشرف مع اعتياد معاشرتنا لأناس فقدوا معنى هذه القيم، ولولا هامش الحرية الذي تمتعنا به بعد ثورة الوفديين عام 2006 وإزالة طاغية تعايش مع أجواء النظام الفاسد، لما حافظنا على الرمق الأخير فينا الذي ظل يحول دون وقوعنا في شرك الفاسدين. لكن كتبنا وكتبنا فلم يفهم أحد ما كتبناه، بل أصبحنا في الفترة الأخيرة، محط غضب المسئولين، ونغمة نشاط بين رواد الفضائيات والقادرين على تسليط الأضواء على رجال السلطة في كل مكان.

جاءت الفرصة الأخيرة بعد أن عرفت طريق الدردشة عبر الإنترنت، وشاهدت جيلا يولد عبر العالم الافتراضي، على صفحات الفيس بوك والبلوجرز، حيث عايشت ميلاد شباب 6 أبريل، وشاهدت ولادة مجموعة كلنا خالد سعيد، و25 يناير. رأيت الذكاء والشباب يولد عبر صفحات الإنترنت، مع ذلك لم أتوقع أبدا أن الأمل سيولد على أيدى هؤلاء الذين اعتبرتهم أبطال الفراغ والغرف المغلقة. رغم مظاهر الغضب التي كنا نشاهدها أمام البرلمان ونعرضها بصفة شخصية أمام شاشات التليفزيون والكتابة عبر الصحف والإنترنت، توقفت عقولنا عند توقعات بأن مصر ستشهد تحولات إجبارية تصلح نظاما سياسيا، حتى جاءت الانتخابات الأخيرة وأدركنا أننا وضعنا في غيابات جب نظام ديكتاتوري، يزور كل شيء ويفسد كل شيء ولم يتورع أن يسخر من الذين يرفضون أعماله المجنونة، بل وقف رئيسه ساخرا من رموز الشعب قائلا: خليهم يتسلوا!!.

دب فينا اليأس بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لدرجة جلعتني أشتم علنا أمام

أولادي، وأطلب منهم أن يحرصوا على نيل أفضل شهادات علمية، لكي أدفعهم للعمل بالخارج بعد أن كنت أرفض أن يجتاز شباب مصر خارج حدودها. أقينت ساعتها أن مصر وقعت في أيدي عصابة حكمت البلاد بالحديد والنار، وتريد أن تورث الحكم لابن الرئيس كي يظل الحال على ما هو عليه للأبد. خرجت بعض الكلمات كتبناها بأيدينا تحذر من غول أحمد عز الأكثر شبها بنيرون روما الذي أحرقها على من فيها، وصدرت بعض التحذيرات من جانب حكماء داخل النظام، تقول إن الشعب غاضب، ومقبل على ثورة، استهجن قادة الفساد لغة العقلاء، بل اعتبرونا من قبيل التهويل من ردود فعل لن تحدث في مصر ولو بعد مائة عام.

مشهد اليأس دفعنا إلى السير بجوار الحائط عدة أسابيع، طلبا للراحة من معارك خضناها على المستوى الشخصى أرهقتنا نفسيا وبدنيا، وأهدرت طاقاتنا المادية في أمور رأيناها ساعة الغضب تافهة. وفجأة جاء الفرج، حينما جاء الغوث من الشارع. فقد أدت ثورة الغضب يوم 25 يناير إلى قرار أمني غاشم بقطع شبكات الإنترنت، تحولت بعده إلى عاطل عن العمل، حيث أصبحت " بوابة الوفد" التي نعمل بها، غير قادرة على التواصل مع الثائرين. ذهبنا إلى الشارع، لنرصد الأحداث، فإذا بالشباب الذي كنا نتواصل معهم عبر الإنترنت ليسوا كأي شباب في العالم، وعقولهم ليست كأي عقول.

رأيت الأمل يولد من جديد وسط ضربات القنابل والذخيرة المحرمة دوليا، والتي ألقيت علينا بغزارة في شوارع وسط القاهرة، يوم جمعة الغضب. ولد المستقبل على أيدي شباب أصروا على التظاهر السلمي والسير إلى ميدان التحرير للتعبير عن غضبهم من النظام، والرغبة في إصلاح أحوال البلاد. شاهدت الكر والفر الذي أتقنه الصبية والبنات والنساء والرجال جراء محاولات قوات الشرطة دهسهم عمدا تحت عجلات العربات المصفحة، وقتلهم عمدا بدخان القنابل والذخيرة الحية، التي تطاردهم داخل ممرات الحواري ومداخل العمارات.

جاءت لحظة الحقيقة عندما بدأ الشهداء يساقطون، ورأيت الشباب يزداد عنادا في مواجهة القهر والطغيان، وإصرارهم على دخول ميدان التحرير مهما كلفهم ذلك من ضرب وقتل. المدهش أن هؤلاء لم يتورعوا في تقديم الطعام والشراب لقوات الشرطة، التي تطلق عليهم النيران، ويصفقوا للضباط الذين يطعنونهم في أعناقهم وظهورهم أمام عيون البشر وكاميرات الصحف والتليفزيون.

ولادة الأمل جاءت على أيدي هؤلاء الشباب الذين أخرجونا من ظلمات القهر إلى النور، في وقت تخيلنا أن الظلام سيحل على هذا البلد إلى الأبد. لهؤلاء الشباب نحنى رءوسنا، ونعهدهم بأن نفسح لهم الطريق كي يقودونا نحو الغد الأفضل الذي شقوا طريقه ويرسمون اليوم معالمه. علمنا الشباب الدرس الذي كدنا ننساه، أن النور يولد من رحم الظلمة وأن الشعب إذا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.

[email protected]