رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

أسعار اللحوم.. ومشوار عمره 71 عاماً

صورة لن تنمحي من ذاكرتي.. كان ذلك في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي.. الصورة كرنفال شعبي كان يتكرر في معظم المدن القديمة والقري الكبيرة.
هي صورة مظاهرة أو مهرجان.. قافلة كبيرة من الجاموس الذي تشتهر به دمياط وضواحيها..

ومن الأبقار وقليل من الأغنام والماعز.. وكل ذلك تم تزيينه بالورود وسعف النخيل.. طابور طويل تتقدمه فرقة الفناجيلي وهي النسخة الدمياطية من فرقة حسب الله للموسيقي النحاسية والطبول الكبيرة والطابور يتحرك ببطء شديد، يطوف شوارع مدينة دمياط كلها.. وأمام الفرقة الموسيقية بملابسها الحمراء شديدة الحمرة وباريهات حمراء علي رأس كل موسيقي.. ثم صوت يرتفع ـ هو في الغالب من أصحاب الجاموس والأبقار.. الصوت يدوي كالرعد يقول وهو يشير إلي طابور الحيوانات «من ده بكره.. بقرشين» وكان معني هذا النداء أن أصحاب هذه الحيوانات سيبيعون الرطل من لحومها بقرشين.. والرطل يساوي نصف كيلو جرام تقريباً..
** وينطلق كل الصبية والأولاد - وأنا منهم - نهتف جميعاً ونردد ما يقوله «المعلمين» من الجزارين نردد قولهم: من ده بكره.. بقرشين، وكان هذا الطابور «الحيواني» يطوف بكل شوارع دمياط في اليوم السابق لوقفة عيد الأضحي المبارك.. وكان كبار السن من المشاهدين يسألون هؤلاء الجزارين عن عنوان محلاتهم التي ستبيع رطل اللحم بقرشين في يوم الوقفة.. وكانت حركة الشارع الذي يمر به هذا المهرجان الشعبي الرائع تتوقف تماماً.. إلي أن يمر الطابور بكل ما فيه من جاموس وأبقار وأغنام.. ومن فيه من صبيان وفتيان.. وكانت هناك لافتات من قماش مكتوب عليها اسم كل جزار ومحل جزارته..
** ولكن ما معني عبارة «من ده بكرة.. بقرشين» معناها أن الجزار ملتزم ببيع رطل اللحم بقرشين صاغ.. فقط لاغير، طبعا هذا الكلام كان من حوالي سبعين سنة..و ظل يتردد قبيل وقفة العيد لعدة سنوات حتي إن والدي كان قد طلب مني أن أذهب بسرعة الي بيت جدتي لأمي لأطلب منها الحضور.. حيث إن والدتي علي وشك أن تضع مولوداً جديدا، هو أخي الحبيب السيد، وقابلني في الطريق هذا المهرجان شديد الإغراء.. فاندفعت أسير معه ونسيت أمي التي توشك أن تضع مولودها.. وكانت بحاجة إلي مساعدة والدتها.. جدتي.. ولم أتنبه أن الوقت والمهرجان سرقني إلا عند المغرب.. فلما عدت للبيت كانت والدتي قد وضعت أخي السيد، بعد أن أرسلوا رسولا غيري لاستعجال جدتي!!
** والمهم هنا أن رطل اللحم كان بقرشين، أي أن سعر الكيلو أربعة قروش.. وكان شائعاً أن يباع اللحم أيامها بالرطل.. وطبعاً لا تقولوا إن ذاك زمنا كنا نشتري فيه العشرين بيضة بمليم!!
ودار الزمن.. وحضرت إلي القاهرة لألتحق بجامعتها عام 1957، وسكنت في الدقي - في أحد الشوارع المتفرعة من شارع سليمان جوهر أشهر أسواقها «وتوحمت»علي اللحم.. فنزلت اشتري رطلاً من اللحم ولما طلب مني الجزار تسعة قروش ثمنا للرطل.. طلبت منه ماسورة لم أدفع فيها شيئاً لكي«أسلقها» وأعمل علي شوربتها فتة بالخل والثوم.. تخيلوا كل ذلك بتسعة قروش.. وحتي أطبخ عليها

حلة خضار اشتريت رطل كوسة وجزرتين ونصف رطل بصل ومثله من الطماطم، ودفعت في كل ذلك ثلاثة قروش.. وكانت وليمة مفتخرة!! أكلتها أنا وزميلي في الغرفة عبدالسلام أبو شحاته الذي هاجر الي أمريكا أوائل الستينيات.
** واستمرت أسعار اللحوم تقفز وتقفز الي أن صار سعر الكيلو أي حوالي رطلين عندما تزوجت حوالي 45 قرشاً.. ثم كانت المظاهرة التي خرج فيها القاهريون يهتفون أمام مجلس الشعب ويهللون علي رئيس المجلس «سيد مرعي» ويقولون «سيد بيه.. ياسيد بيه.. كيلو اللحمة بقي بجنيه»!!
الآن مصر تستورد حوالي نصف ما تأكل من لحوم.. وعندما كان الرطل بقرشين لم تكن مصر تستورد رطلاً واحداً لا من أثيوبيا ولا من استراليا أو من الهند والبرازيل.. ولكن للحقيقة كان عدد سكان مصر وقتها أقل من 15 مليونا.. كان خير مصر يكفي كل المصريين.
**  ولكن بعد أن قفز عدد السكان ليصل الي حوالي 85 مليوناً لم يعد الانتاج يكفي.. ومع التهاب أسعار العلف والاعتماد علي الاستيراد وصل سعر اللحم البتلو إلي 100 جنيه والكندوز الي 70 جنيهاً والضاني كذلك لسبعين جنيها.. وياليت ما نستورد من لحوم يكون نظيفاً وصحياً وليس مدعماً بديدان الساركوسيست الهندية أو لحوماً مستوردة من أثيوبيا من أبقار مجهدة من مشوارها اليومي الذي يطول إلي 40 كم ذهاباً ومثلها عودة ما بين المرعي وبين الإقامة.. وأصبحنا ملطشة لمصدري اللحوم ومستورديها الذين يكتنزون الأموال.. من دماء المصريين باستيراد أسوأ لحوم في العالم.
** وانعكست أسعار اللحوم علي أسعار الدواجن والبط والأوز.. وكذلك علي الأسماك وكل لحوم بيضاء أخري.. وإذا كنت قد أكلت حبة السمان بقرشين في أوائل الأربعينيات.. فإنني أرفض الآن تناول السمانة وقد وصل سعرها الي 10 جنيهات!!
تري ماذا سيأكل كل المصريين غداً.. ورحم الله عصراً كان السمك يباع فيه بالشروة.. وكنا نشتري البلطي بأربعة قروش نأكله بتلذذ واستمتاع.. الآن الكيلو بـ16 جنيها ولا طعم له..
** انه مشوارنا مع اللحوم وأسعار اللحوم.. وعجبي!!