رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

عبقرية سعد زغلول (2)

كانت السنواتُ ما بين 1906 و1910 من أسوأ السنين فيما يتعلق بتأزمِ العلاقةِ بين مسلمى مصرَ وأقباطِها. فخلالُ تلك السنوات وكنتيجةٍ لسياساتِ ممثلِ الاحتلالِ البريطانى فى مصرَ سير الدون جورست وسلفه اللورد كرومر، والتى قامت على بذرِ بذورِ الحزازات بين المسلمين والأقباط عن طريقِ التناحرِ

على المصالحِ بوجهٍ عامٍ والتنافس الدامى على الوظائفِ بوجهٍ خاصٍ، ناهيك عن إذكاء نار التعصب ولا سيما بالإيعاز للأقلية القبطية أن أبناءها لا ينالون حقوقهم كاملة أن الفرص لا تتاح لهم كما تتاح للمسلمين، نتيجة لذلك تأزمت العلاقةُ بين مُسلمى مصرَ وأقباطها بشكلٍ لم يسبق له مثيل فى تاريخِ مصرَ الحديث. وقد بلغ تأزمُ العلاقةِ حداً بعيداً عندما أخذت الصحفُ اليومية تعبر عن وجهتى النظر فى الخلافِ المشتعلِ بشكلٍ زاد من اشتعالِ نارِ الخلاف. وفى أطروحة نال بها الدكتور حسن الموجى درجة الدكتوراه فى الإعلام عن موقف الصحافة الشامية من مشاكل الواقع المصرى خلال السنوات ما بين 1900 و1914 عرضٌ شيقٌ للغايةِ للكيفية التى انعكس بها هذا الخلاف على كبرياتِ الصحفِ المصريةِ يومذاك. فقد بلغ التأزمُ أقصَاه عندما قُتِلَ بطرس غالى باشا رئيس وزراء مصر القبطى يوم 20 فبراير 1910 برصاصةٍ أرداه بها شابٌ مصرى مسلم هو إبراهيم الورداني. وخلال هذه السنوات كان سعدُ زغلول وزيراً فى كل الوزاراتِ التى تعاقبت على حكمِ مصرَ ابتداءً من وزارةِ مصطفى فهمى باشا الأخيرة (1906 -1908) ووزارة بطرس غالى باشا (1908 – 1910) ثم وزارة محمد سعيد باشا منذ 1910 وحتى استقالة سعد زغلول الشهيرة سنة 1912 خلال تلك السنوات أتيح لسعدٍ الذى ساعدته طبيعتهُ كرجلِ قانون ومحام وقاض ذاع صيت عدله كما ساعدته ثقافته التى جمعت بين التراث والثقافة العصرية، أقول مكنه ذلك أن يراقب الأزمةَ ويقف على حقيقتها وبذورِها. أدرك سعدٌ بنظرهِ الثاقبِ وحنكِته التى كونتها تجاربُ السنين الخصبة أن «العدل» بين طرفى الأمة يقضى على أية فتنة طائفية. كذلك أدرك سعدُ زغلول أن مبادرةَ الأغلبيةِ بكفالة الشعور بالأمان لدى الأقلية هو الأمر الطبيعى والذى ستنجم عنه حالة سلم حقيقية لا ظاهرية، وأن الأقباط عندئذ سيكونون أبعد ما يكونون عن التعصب أو الخوف أو القلق على أنفسهم وعلى أبنائهم وعلى أموالهم.
وقد اختزن سعدُ زغلول كل خبراتهِ فى الحياةِ سواءً إبان الثورةِ العرابيةِ التى شارك فيها أو أيام السجنِ القديمةِ أو تجارب الحياةِ إبان اشتغاِله بالمحاماةِ ثم القضاء ثم وزيراً ثم نائباً منتخباً عن الأمةِ فى الجمعيةِ التشريعيةِ (1913 – 1914) ثم سنوات المخاض الأخير خلال سنى الحربِ العالميةِ الأولى، فقد اختزن سعدُ زغلول الدرس الأعظم المستفاد من مراقبةِ تلك التجربة. وعندما وضعته مؤهلاتهُ الفريدة فى موضع القائدِ الأوحد لثورة 1919 فإن سعداً وظَّف خلاصةَ تجاربهِ فى الحياةِ ومن بينها تجربة تأزم العلاقات بين مسلمى مصرَ وأقباطِها خلال السنوات ما بين 1906 و 1912 أكمل توظيف. فإذا بقيادتهِ الروحيةِ الفذة للثورةِ تجعل من فُرقاء الأمس الألداء رُفقاء الثورة المشتعلة الأصفياء وجنودها الأوفياء. ورغم اعتقادى أنه لا توجد أية حاجة لتقديم الأدلة على ائتلاف مسلمى مصرَ وأقباطها ائتلافا بالغ الروعة منذ اشتعال ثورة 1919 بسبب القبض على الرجل الذى اجتمعت ثقةُ عنصرى الأمة فيه، حيث إن جميع المؤرخين قد أوفوا هذه الظاهرة حقها، فإننى أودُ أن أقتطف فقرات من كتاب «موسوعة تاريخ مصر» (الجزء الرابع – صفحة 1567) للأستاذ أحمد حسين حيث يقول فى وصف مظاهرة الشعب الكبرى يوم 17 مارس 1919 (ولعل أروع ما أبرزته هذه المظاهرةُ الكبرى هو هذه الظاهرة التى سيطرت على الأحداثِ من اللحظةِ الأولى، وهى ظاهرة التضامنِ الوثيقِ بين المسلمين والأقباط بعد أن تصور الإنجليز أنهم نجحوا فى التفرقةِ بين عنصرى الأمة، فإذا بالمفاجأة وكم لثورة 1919 من مفاجآت، تظهر كيف ساد التلاحمُ بين المصريين فى لحظة وأصبحت الكلمة التى تتردد على الشفاة «الدين لله والوطن للجميع» وظهرت الأعلامُ فى هذه المظاهرةِ الكبرى وقد رسم عليها الصليب مع الهلال).
وخلال سنواتِ الكفاح الوطنى ما بين 1919 و 1924 كان سعدٌ مُحاطاً دائماً برفاقهِ المخلصين وفى مقدمةِ الصفوفِ صفوةٌ وفيةٌ من الشخصيات القبطية أمثال واصف غالى وويصا واصف وسينوت حنا وفخرى عبد النور ومكرم عبيد وغيرهم. ولعل معظم القراء المهتمين بتاريخ مصر يذكرون أن سعداً عندما اُعتقل يوم 23 ديسمبر 1921 من قبل قوات الاحتلال البريطانى فى مصرَ ونفى، فقد كان اثنان من أصحابهِ الخمسة

الذين قررت سلطاتُ الاحتلالِ نفيهم من كبارِ الشخصيات القبطية (مصطفى النحاس، سينوت حنا،مكرم عبيد، فتح الله بركات، عاطف بركات). وبعد قليل أُلقى القبض على مجموعةٍ أُخرى من رفاقِ سعد زغلول حاكمتهم سلطاتُ الاحتلال وأصدرت حكما بإعدامِهم فى 11 أغسطس 1922 وهم (حمد الباسل، ويصا واصف، مرقص حنا، واصف بطرس غالى، علوى الجزار، جورج خياط، مراد الشريعى) وواضح أن هناك أربعة أقباط من بين مجموعِ رفاقِ سعد زغلول السبعة. وبعد اعتقالِ هذه المجموعة الثانية من زعماءِ الوفد تكونت مجموعةٌ جديدة أضحت هى الزعامة الثالثة للوفد وقد ضمت عبدالرحمن فهمى ومصطفى القاياتى ومحمود فهمى النقراشى ومحجوب ثابت ومحمد نجيب الغرابلى وفخرى عبد النور ونجيب إسكندر وعبد الستار الباسل وحسن يس. وبعد اعتقال هذه المجموعة الثالثة تشكلت زعامة جديدة رابعة للوفد من المصرى السعدى وحسين القصبى ومحمود حلمى إسماعيل وعبد الحليم البيلى وراغب إسكندر وسلامة ميخائيل. وتظهر الأسماء بكلِ وضوحٍ أن الشخصياتِ القبطية كانت متغلغلة فى تكوينِ الوفدِ بكافةِ مستوياته تطبيقاً لروحِ وسياسةِ ومنهجِ سعد زغلول فى هذا الصدد. وعندما اكتسح سعدٌ وحزبه أولَ انتخاباتٍ حقيقية فى تاريخِ مصرَ، وعندما ألف أول وزارة شعبية حقيقية فى تاريخ مصر الحديث خلال شهر يناير 1924، إذا به يخالف العرف الذى كان يقضى بتعيين وزير قبطى فى كل وزارة، وإذا بسعدٍ يعّين وزيرين قبطيين فى وزارته التى كانت تتكون يومئذ من رئيس وتسعة وزراء فقط، وكان هذان الوزيران هما مرقص حنا وواصف غالى.
وهكذا يتضح جلياً أن سياسةَ سعدِ زغلول فى هذا المضمار إنما كانت تقوم على إلغاءِ التعصبِ من الجانبين وذلك عن طريقِ إشاعةِ روحِ الوطنية المصرية وبث روح الأمان والاطمئنان بين أفراد الأقلية القبطية وجعلهم جزءاً لا يتجزأ من بنيةِ حزبهِ السياسى الكبير، وتوزيع الأدوار فى هذا الحزب على أساس الكفاءة لا الدين. ومن جانب آخر فإن روحَ التآخى والإخلاص والوفاء والولاء كانت هى معالم اتجاه الأقباط المصريين ومواقفهم، ذلك الاتجاه الذى تمثل ذات يوم فى أعظم المواقف عندما هم أحد الجنود بطعن مصطفى النحاس زعيم الوفد والأغلبية المصرية بحربة مسمومة إبان وزارة إسماعيل صدقى فى مطلع الثلاثينيات، فإذا بواحد من أكبر الشخصيات القبطية فى الوفد يلقى بنفسه على النحاس لفدائه فتصيب الحربةُ المسمومة سينوت حنا بجرح غائر يموت – بعد أيام – بأثره وقد قدم مثالاً لا تمحوه الأيام للمعادلة العبقرية فى ربط عنصرى الأمة برباطِ الائتلافِ والتآخى والوطنيةِ والمحبةِ الذى لا تنفصم عراه إلا عندما ينخر التعصبُ فى بدن الأمة – بعنصريها – سواء فى شكلِ فكرٍ رجعى لا يصلح لهذه الأمة ذات العنصرين ولا يصلح لهذا الزمان، أو فى شكل تعصبٍ مقيتٍ من جانب بعض الأشخاص الذين يجهلون أن السلام الوطنى فى مصر هو المنجى الوحيد من طوفان التخلف وإعصار العصبية المقيتة الذى هب منذ أكثر من أربعين سنة على هذا الجزء من العالمِ الذى توجد مصرُ فى قلبهِ.