عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

عبقرية سعد زغلول (1)

وُلِدَ سعدُ زغلول فى سنةِ 1859 وتوفى يوم 23 أغسطس 1927. ويهدف هذا المقالُ لإبرازِ جانبٍ عبقريّ من جوانبِ زعامةِ سعد زغلول لم يلتفت إليه المؤرخون بالشكلِ الذى يستحقه. وأعنى اختلاف زعامة سعد زغلول عن الزعامات الأُخرى

فى تاريخِ مصرَ المُعاصر وفى تاريخِ معظمِ شعوبِ العالمِ أيضاً. فقد بلغ سعدٌ (على خلاف هؤلاء) ما بلغه من نفوذٍ طاغٍ على الجماهيرِ وتأثيرٍ يشبه ما يُقال عن أعمالِ السحرِ على الناسِ وهو (أى سعد) مُجَرَد تماماً من كلِ منصبٍ رسمى (مثل المهاتما غاندي).
ولنتأمل معاً سلوك المصريين عندما عاد سعدُ زغلولٍ لمصرَ فى 4 أبريل 1921 بعد نفيه الأول فى مارس 1919.. يصف المؤرخُ عبد الرحمن الرافعى، وهو أحد زعماء الحزب الوطنى المشهورين بعداءهم لسعدٍ استقبال الجماهيرِ لسعدِ زغلول يومذاك بقولِه: (وقوبل فى الإسكندرية وفى الطريق منها إلى القاهرةِ وفى العاصمةِ بأعظمِ مظاهرِ الفرحِ والحماسةِ بحيث كانت مقابلته سلسلة لا نهاية لها من الزيناتِ والمظاهراتِ والحفلاتِ والأفراحِ مما لا مثيل له فى تاريخِ مصرَ الحديث). أما الدكتور محمد حسين هيكل أحد أبرز شخصياتِ الأحرارِ الدستوريين الأشد عداءً لسعدِ زغلول فيقول فى الجزءِ الأول من مذكراته: (وكان استقبال سعد فى ذلك اليوم منقطعَ النظير، فما أحسب فاتحاً من الفاتحين ولا ملكاً من الملوك حظى بأعظم منه فى أوجِ مجدهِ. خفت القاهرةُ كلُها: شبابُها وشيبُها، رجالهُا ونساؤها حتى المحجبات منهن، إلى الطرقات التى سيمر بها يحيونه ويهتفون باسمه هتافات تشق عنانَ السماء، وجاء إلى القاهرة من أقصى الأقاليم وأريافها ألوف وعشرات الألوف يشتركون فى هذا الاستقبال الذى جمع بين رجالِ الحكمِ من وزراءٍ ووكلاءِ وزاراتٍ ومن دونهم ومن طبقاتِ الشعبِ المثقفةِ وغير المثقفة). (ورأى سعدٌ ذلك بعينى رأسِه، فوقف فى سيارته التى سارت الهوينى من محطةِ القاهرة إلى داره يحيى بكلتى يديه هذه الجموع الزاخرة الهاتفة، المولية وجهَها إلى الرجلِ الذى اجتمعت فيه آمالُ الأمةِ كلِها). ثم يضيف الدكتور هيكل: (ترى.. أقُدَّر للإسكندر الأكبر أو لتيمورلنك أو لخالد بن الوليد أو لنابليون بونابرت أن يرى مشهداً أجلَ وأروعَ من هذا المشهدِ؟ وماذا كان يجول بنفسِ سعدٍ وهو يرى هذا المنظر الرائع يمر أمامه وعيون الناسِ كلهم مشدودة إليه وأفئدتهم متعلقة به وقلوبهم ممتلئة بإكبارِه وإعظامِه؟) أما المؤرخ الكبير أحمد شفيق (باشا) فإنه يصف لنا هذا المشهد التاريخى فى الجزء الثانى من «الحوليات» فيقول: (لقد روى لنا التاريخ كثيراً من روايات القواد والملوك الذين يعودون إلى بلادِهم ظافرين، فيحتفل القومُ احتفالاً باهراً باستقبالِهم, ولكن لم يرو لنا التاريخ أن أمةً بأسرِها تحتفل برجلٍ منها احتفالاً جمع بين العظمةِ غير المحدودة والجلال المتناهى لم يفترق فيه كبيرٌ عن صغيرٍ، احتفالاً لا تقوى على إقامته بهذا النظام أكبرُ قوى الأرض لولا أن الأمةَ المصرية أرادت أن تأتى العالم بمعجزةٍ لم يعرف لها التاريخُ مثيلاً). أما أحمد حسين مؤسس حزب مصر الفتاة والذى رغم خلافه السياسى مع الوفد كان رجلاً كبيراً اتسم بالموضوعية البالغة فى التأريخ عندما أفاض فى تصوير عظمة شخصية وجهاد سعد زغلول الوطنى فى كتابه «موسوعة تاريخ مصر» معطياً إياه حقه الكامل كأعظمِ زعيمٍ فى تاريخِ مصرَ الحديث، يكتب أحمدُ حسين فى الجزء الخامس من هذه الموسوعة عن استقبال سعد زغلول يومئذ فيقول: (وصل سعد زغلول باشا إلى القاهرة يوم 4 إبريل. وفى ختام الجزء الرابع تحدثنا عن الاستقبالِ «الخُرافي» أو فلنقل الأسطورى الذى استقبلت به مصرُ سعداً حكومةً وشعباً، ولا غرابة فى ذلك فقد كان إبرازُ هذه المشاعرِ واتخاذها سعدَ زغلول رمزاً لها هو أسلوب الأمةِ فى التعبيرِ عن إرادتِها, وقد استمرت الاحتفالاتُ بعودةِ سعد زغلول تتجلى لعديدٍ من الأيامِ فى الوفودِ التى هرعت من أنحاءِ البلادِ لتحيةِ سعدٍ... وإذا كان من نواميسِ الطبيعةِ أن يكون لكلِ فعلٍ ردَ فعلٍ، فلا بد أنه كان لهذا الاستقبال «الخُرافي» رد فعل فى مختلفِ الأوساطِ المعاديةِ للشعبِ، وفى الشعب وفى نفس سعد زغلولٍ على السواء. فأما أعداءُ الشعبِ وعلى رأسهم إنجلترا فلا بد أن يكون الاستقبالُ قد أفزعها ورأت ما ينطوى عليه من معانٍ، حيث تضامن الشعبُ وتكتل خلف الرجل الذى أصبحت إنجلترا تعتبره خصماً لدوداً لها. ولا بد أن يكون السلطانُ أحمد فؤاد قد أفزعه بدوره أن يصبح فى مصر إنسان بكل هذه القوةِ).
أما عباسُ العقاد فإنه يصف لنا مشهدَ عودةِ سعد زغلول يوم 4 إبريل 1921 فيتحدث فى الفصل الثالث والثلاثين من كتابه «سعد زغلول – سيرة وتحية» فيقول: (ملك سعد ناصية الموقف من ساعة وصوله إلى شاطئ الإسكندرية، وثبت فى عالمِ العيان لمن كان فى شك من الأمر أن هذا الرجل أقوى قوة فى سياسةِ مصرَ القومية، وأن كل اتفاقٍ بين مصر وإنجلترا يتم على الرغمِ من هذا الرجل أو مع إغفالِ شأنه وتهوين خطره مستحيلٌ). (لقد كان اليوم الرابع من إبريل – يوم وصوله الإسكندرية – يوم الجيل بأسرهِ فى العالمِ بأسرهِ، ولك أن تقول وأنت آمن من الغلو أن استقبالَ سعدٍ فى ذلك اليوم وفى اليوم الذى بعده كان أفخمَ استقبالٍ لرجلٍ من الرجالِ فى أوائل القرن العشرين، فقد انتظمت مصرُ موكباً واحداً للحفاوة به من شاطئ البحر بل من مدخل الميناء إلى عاصمة الديار المصرية وارتفعت الزيناتُ وأقواسُ النصرِ من سُلَمِ الباخرةِ إلى حجرتِه فى فندق «كلاردج» الذى نزل فيه، وكان الناظرُ لا يرى فى كلِ مكانٍ إلاّ صورة سعد ولا يسمع إلا الهتافَ وأناشيدَ المترنمين بذكِره. وانقضى أسبوعٌ قبل وصولهِ والوفود تتزاحم على الإسكندرية من أقصى القطر إلى أقصاه حتى تعذر المبيتُ فى الفنادقِ ولجأ الناسُ إلى البيوتِ يسألون أصحابَها أن يؤوهم إلى مكانٍ يسكنون إليه ريثما يحين اليومُ الموعود. ولم تبق شرفةٌ فى الطريق إلا غالى المستأجرون بثمنِ الوقفةِ فيها بضع ساعاتٍ حتى نيفت أجرةُ

الشرفةِ على أُجرةِ البيتِ وضاقت الطرقاتُ عن مسيرِ المركباتِ وأوشكت أن تضيق عن مسير الأقدام من مجاز لمجاز. ولما استقل القطار من الإسكندرية إلى القاهرة تلاحقت الجموعُ على طولِ الطريقِ تأبى إلا أن تستوقفه مرات فى غير مواضع الوقوف ومنهم من كانوا يترامون على القضبانِ فى بعض القرى الصغيرة ليغتنموا لحظة من الوقتِ يقف فيها القطارُ ويطل فيها الزعيمُ على المستقبلين. وخرج كل ُمستطيع الخروج فى مدينةِ القاهرة إلى الطريق ما بين باب الحديد إلى بيتِ الأمةِ يرقبون الصباح ساعة قدوم الرئيس فى نحو الخامسة من المساء فلما لاح لهم فى سيارته نسوا أنفسهم أفراداً وذكروا أنفسهم قوماً واحداً لا اختلاف فيه بين صوت وصوت ولا بين دعاءٍ ودعاءٍ وبلغ من نسيان النفس وغلبة الوجدان على الإرادة أن أناساً كانوا يتسلقون الأشجار والأسوار أرسلوا أيديهم يصفقون وهم لا يدرون أنهم معتصمون بتلك الأيدى من خطر الوقوع.. ولا خطر فى الحقيقة من الوقوع حيث لا أرض فى طول الطرق إلا وقد غشاها ألوف الواقفين)...
كانت تلك بعض كلماتِ «العقاد» فى وصف استقبال الشعب المصرى لسعد زغلول يوم الرابع من إبريل 1921 بعد كلمات «عبد الرحمن الرافعي» و«محمد حسين هيكل» و«أحمد شفيق» و«أحمد حسين» وكل منهم يروى ما عاصره ورآه لا ما حُكيَّ له أو تناقله الرواةُ. ثم نتساءل هل كان سعد ملكَ مصرَ؟.. أم رئيسَ جمهوريتها؟.. أم رئيس وزرائها؟.. أم وزيـراً؟؟. والإجابة عن كل تلك الأسئلة بالنفى: فلم يكن سعد ملكاً أو رئيساً ولم يكن رئيس حكومة ولم يكن وزيراً ولم يكن يشغل أى منصب رسمى عندما استقبله شعبُ مصرَ بهذا الاستقبال. وهنا تكمن عبقرية سعد زغلول: فبدون سلطة، حيث كان رأس الدولة هو السلطان فؤاد ورئيس وزرائها هو عدلى يكن، وبدون مؤسسات رسمية تحشد المواطنين فى الشوارع، وبدون وزير إعلام يسخر أدوات أجهزة الإعلام لتسليط الأضواء على وجه واسم رئيسه، وفى ظل الوجود الحربى البريطانى المعادى لسعد زغلول والذى كان قد نفاه قبل سنتين إلى مالطة مما فجر ثورة 1919، وبدون أى حول ولا طول إلا شخصية سعد زغلول العامرة بمؤهلات الزعامة الحقيقية، استقبلت مصرُ سعداً كما لم تستقبل أحداً من قبله أو بعده ممن لاحظ لهم من «المناصب الفخيمة». وذلك سر عبقرية هذه الزعامة التى نضجت بدون الاستناد على منصبٍ رفيعٍ تسخر له كل الوسائل والأجهزة. وكم أود أن يُطالع شباب مصر كلمات الصحفى الكبير عبد القادر حمزة والتى يصف فيها عظمة سعد زغلول عندما ألقى الإنجليز القبض عليه للمرة الثانية يوم 23 ديسمبر 1921، وسعد زغلول يومذاك على مشارفِ السبعين من عمره ِ... يقول عبدُ القادر حمزة فى كتابه «اذكروا سعداً»: (وما مضت دقيقتان أو ثلاث دقائق حتى ضج فجأة كل الذين حولى، فإذا سعد مقبل وأمامه ضابطان ومن خلفه ِ حاجبه وخادمه ؛ وهم جميعاً يمشون فى نطاق ٍ من الجنودِ. رأيته يمشى بعد أن نزع من أهله ِ وبيته وأحيط َ بالجند ِ والسلاح وفتح أمامه باب التضحية على مصراعيه مجهول الأول مجهول الآخر، فأُقسمُ ما رأيت فيه وفى مشيته إلا بطلاً عالى الرأس مطمئن النظرات... وودتُُ أن رآه معى فى تلك الساعةِ كلُ أبناء ِ مصرَ. إذن لرأوا سعد َ هم أسداً وهو أثبت ما يكون حين تنازله الحادثاتُُ. كان يمشى هادئاً منبسط الجبين ليس فى خطوة إسراع ولا تثاقل ولا فى نظراتهِ ولا فى حركات ِ جسمهِ أثر واحد يدل على قلق أو اضطرابٍ، ويده اليسرى فى جيب ِ معطفهِ ويده اليمنى تحرك عصاه حركةً عاديةً منتظمةً كأنه لا يرى لكل ما هو واقع ولا لكل الذين محتاطون به وجوداً أكثر من العدمِ. وما رأيته تلفت يميناً أو شمالاً، ولا وقفت عينه عند واحد من الذين يرافقونه مسلحين، ولكنه لما رآنا نحن واقفين مد نظره إلينا وسرحه فينا).