رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مصر بين صالونين

الصالون الأول:
نازلى فاضل هى أميرة مصرية لم تنل حقها من تقدير الكتاب والمؤرخين لها بصفتها أحد أسباب وجود جيل التنويريين فى مصر. ونازلى فاضل هى حفيدة إبراهيم باشا الذى شارك والده محمد على باشا (بصفة عملية) حكم مصر، ثم خلف والده (فى حياته) لفترة قصيرة سنة 1848.

وقد كان مصطفى فاضل (والد نازلي) هو المستحق لعرش مصر بعد عمه محمد باشا سعيد (الذى حكم من 1854 حتى 1863) ولكن شقيقه الأصغر (إسماعيل) رتب مع الباب العالى فى إستانبول أن يصل هو للحكم بدلا من شقيقه الأكبر (مصطفى فاضل) فى 1863. وقد تسبب ترك مصطفى فاضل مصر وإقامته خارجها فى تلقى ابنته نازلى فاضل أرقى تعليم وتثقيف فى أوروبا. وكانت نازلى تجيد معظم اللغات الأوروبية الأساس إجادة تامة، كما أنها صارت شديدة الإعجاب بالنهضة والرقى الأوروبيين. وقد عادت الأميرة نازلى لمصر بعد عزل عمها الخديو إسماعيل وتولى ابن عمها الخديو محمد توفيق حكم مصر (1879) وكانت على علاقة طيبة معه، وهى العلاقة التى مكنتها من استصدار عفو من الخديو عن صديقها وتلميذها محمد عبده (الإمام محمد عبده مفتى الديار المصرية الذى توفى سنة 1905). فى أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر أسست الأميرة المثقفة التنويرية أول صالون ثقافى تديره امرأة فى مصر. وفى هذا الصالون انتقلت روح عصر النهضة والتنوير والحداثة من صاحبة الصالون الأميرة الشابة لجمهور صالونها وأهمهم محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين والأديب السورى عبدالرحمن الكواكبي... وفى مرحلة لاحقة هدى سلطان التى ستعرف فى تاريخ مصر باسم هدى شعراوي... وبسبب هذا الصالون تزوج «الفلاح» سعد زغلول (بعد أن خلع ملابسه الأزهرية وارتدى الزى العصري) من صفية ابنة مصطفى باشا فهمى الذى رأس الحكومة المصرية من 1895 الى 1908.... وفى اعتقادى أن الأميرة نازلى فاضل وصالونها هما من أهم أركان حركة وتيار التنوير فى مصر الحديثة والتى كانت تسير بمحاذاتها حركة تنوير ثقافية أخرى فى منطقة جبل لبنان من أصحاب عقول فذة مثل فرح أنطون الذى أعاد اكتشاف أعظم العقول فى تاريخ الثقافة الإسلامية وهو ابن رشد العظيم من كتاب «طارق حجي» الذى يعد حاليا للطبع «نساء رائدات».

الصالون الثاني:
ولدت مى زيادة فى مدينة السيد المسيح (الناصرة) سنة 1886. نصفها (الأب) لبناني، والنصف الآخر (الأم) سورية. اسمها الأصلى «مارى إلياس زيادة»، ولكنها بعد أن نشرت كتاباتها الأولى (ومنها ديوان شعر بالفرنسية بعنوان «أزاهير حلم» فى 1911)  بأسماء غير حقيقية (أشهرها إيزيس كوبيا)، نشرت أعمالها باسمها بعد أن أسقطت الحرف الأول والحرف الرابع من «ماري»، فصارت توقع باسم «مى زيادة». كانت منذ صغرها تتقن عدة لغات أجنبية (من بينها الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية) إتقانا كاملا، فكانت تقرأ وتتحدث وتكتب بهذه اللغات، كما أنها ترجمت عدة أعمال من هذه اللغات الأربع للعربية. حضرت لمصر فى 1908 والتحقت بالجامعة المصرية الأهلية فى الوقت الذى كان «طه حسين» يدرس بنفس الجامعة التى كانت حديثة التأسيس. وكان والدها أحد اللبنانيين الذى امتلكوا دورا صحفية فى مصر. فكما أنشأ نجيب مترى «دار المعارف» وأنشأ جورجى زيدان دار الهلال» وأنشأ يعقوب صروف «المقتطف» وأنشأ فارس نمر «المقطم»، فقد أعاد إلياس زيادة تأسيس (وإصدار) جريدة «المحروسة». منذ 1913، بدأت مى تستقبل كل يوم ثلاثاء ببيتها بمصر الجديدة معظم نجوم الأدب والفن كل أسبوع فيما عرف باسم «صالون مى زيادة»... والذى ذاعت وشاعت شهرته كأشهر الصالونات الأدبية فى المجتمعات العربية فى العصر الحديث. وفى جلسات هذا الصالون الأسبوعية كانت حوارات ثرية تجرى بين قمم الحياة الثقافية أمثال أحمد شوقى وخليل مطران وأحمد لطفى السيد وإسماعيل صبرى وطه حسين والعقاد والمازني، وسلامة موسى وزكى مبارك ومصطفى صادق الرافعى وغيرهم كثر. وواضح مما جاء فى مرثية العقاد لمى (فى 1941) أن جمهور ندوتها اعتادوا على حسمها الخلافات بينهم. يقول «العقاد» (أين فى المحفل مى يا صحاب / عودتنا هاهنا فصل الخطاب / عرشها المنبر

مرفوع الجناب / مستجيب حين يدعى، مستجاب). ألفت مى (بعد مجموعة قصائدها باللغة الفرنسية التى نشرت فى ديوان سنة 1911) العديد من الكتب. فقد أصدرت كتابا عن «عائشة التيمورية» وكتابا آخرا عن «ملك حفنى ناصف»... كما نشرت كتبا عديدة تضم كتاباتها فى الأدب والشعر والفنون التشكيلية والفلسفة والموسيقي. وكانت كتاباتها بمثابة جسر بين العقل العربى (الذى تكتب له) والعقل الأوروبى الذى تكتب عن ثمار إبداعاته فى شتى ميادين الفكر والأدب والفنون. ويكفى أن أذكر أنها كتبت عن العديد من فلاسفة أوروبا وأدبائها، وكتبت باستفاضة عن أشهر المؤلفين الموسيقيين الأوروبيين وبالذات عن بيتهوفن، وعن فنان عصر النهضة الشهير مايك أنجلو. وكتبت كثيرا عن المؤلف المسرحى الإيطالى لويجى بيرانديللو، وعن الفيلسوف الفرنسى هنرى بيرغسون، وعن جبران خليل جبران الذى استمرت رسائلها له (من مصر) ورسائله لها (من الولايات المتحدة) قرابة عقدين من الزمان، وكتبت عن الشاعر البريطانى الشهير لورد بايرون. كما كتبت عن الفيلسوف الألمانى فريدريتش نيتشه، وعن شاعر الهند الأشهر «طاغور». ومن بين الكتب التى أصدرتها مى ترجمات قامت بها عن اللغات الأربع التى ذكرتها (الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية). وباختصار شديد، فإن مى كانت أديبة ومفكرة وكاتبة من معدن رجال مثل طه حسين وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران والعقاد، بل كانت تتفوق على هؤلاء معرفيا بسبب إتقانها بدرجة أعلى منهم أربع لغات أوروبية على الأقل. ومن عناوين كتب مي: ديوان «أزاهير حلم» (شعر بالفرنسية) و«شاعرة الطليعة: عائشة التيمورية» و«باحثة البادية: ملك حفنى ناصف» و«رجوع الموجة» و«ابتسامات ودموع» و«ظلمات وأشعة» و«سوانح فتاة» و«كلمات وإشارات» والصحائف» و«بين المد والجزر» و«المساواة» و«الحب فى العذاب» وروايتها التى كتبتها مى بالإنجليزية «الظل على الصخرة»... وقد تعرضت مى فى أخريات حياتها القصيرة نسبيا (ماتت وعمرها خمسة وخمسون سنة) لظلم بين من أقارب لها أدخلوها بالتزوير والغش مستشفى الأمراض العقلية المعروفة فى لبنان «العصفورية» بهدف الاستيلاء على ثروتها. وقد بقت فى «العصفورية» قرابة سنتين، ثم خرجت منها بعدما تيقن القاضى الذى أدخلها المستشفى بأنها كانت ضحية مؤامرة دنيئة من بعض أقاربها. ويقال إنها كتبت عن تجربتها فى مستشفى الأمراض العقلية كتابا بعنوان «ليالى العصفورية» والذى فقد ولم يعثر عليه حتى الآن. وبعد تجربة العصفورية المأساوية، رجعت مى للقاهرة وعاشت شبه منقطعة عن الناس حتى توفيت فى بيتها بالمعادى فى أكتوبر 1941. ولا شك أن اسم مى زيادة هو أسمى وأرفع الأسماء الأدبية النسائية فى المجتمعات العربية خلال القرنين الأخيرين، وللأسف، فإننى لا أظن أن بكل المجتمعات الناطقة بالعربية اليوم أديبة وكاتبة بتكوين معرفى وثقافى وأدبى وفنى يماثل تكوين مى زيادة.