رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ثمانية حروف صنعت معجزة!

 

هذا الأسبوع.. طيرت وكالة الأنباء الفرنسية، صورة لموكب ضخم، في واحد من شوارع سنغافورة، وعلي جانبي الشارع، كانت جماهير عريضة تصطف، وهي تلوح لصاحب الموكب، في تأثر بالغ، وبمشاعر حميمية للغاية!

أما صاحب الموكب، فلم يكن واقفاً علي قدميه، يشير بيديه للجماهير، كالعادة، في مثل هذه المواكب، ولكنه كان جسداً ممدداً فوق خشبة في الطريق إلي مثواه الأخير!
ولم تمنع الأمطار الغزيرة، التي هطلت في تلك الأثناء، جماهير الشارع، من أن تظل في مكانها، ولا من أن تظل عيونها علي صاحب الموكب، لعل كل واحد كان قد أخذ مكانه علي الرصيف، يلقي نظرة أخيرة علي رجل أحبوه جميعاً هناك، وظلوا إلي آخر لحظة من حياته التي امتدت حتي وصلت 91 عاماً، يتطلعون إليه علي أنه أمل نهضتهم الراهنة، وقد كان كذلك فعلاً!
صاحب الجسد الممدد، اسمه «لي كوان يو» وهو الذي تولي رئاسة وزراء سنغافورة، عند استقلالها عن ماليزيا، ثم إنه هو الذي استطاع بعقل في رأسه، أن يحولها من مجموعة متناثرة من المستنقعات والبرك، إلي دولة يتجاوز متوسط دخل المواطن فيها، متوسط دخل المواطن الأمريكي نفسه!
وحين مات «لي كوان يو» قبل نحو أسبوع، فإن الصحف حول العالم قد نقلت صوراً لمواطنين كثيرين في بلاده، كان الواحد منهم ينتحب وهو يسمع النبأ، وكان يبكي بحرقة، وألم، وكأنه فقد أباه، أو أمه، أو من هو أعز!
ولابد أن هذه من المرات النادرة، التي يبكي فيها المواطنون، زعيماً لهم، علي هذه الصورة التي تابعها كثيرون بيننا.. فمن زمان جداً، لم نسمع، ولم نشهد رحيلاً لأحد، بمثل ما جاء رحيل مؤسس سنغافورة، وباني نهضتها معاً!
وقد استبدت الحيرة بكثيرين في أنحاء العالم، حول الطريقة التي استطاع بها هذا الرجل، أن ينشئ بلداً من عدم، ثم لا يكتفي بأن ينشئه من عدم، وإنما يجعله نموذجاً لا تكاد توجد دولة طامحة في أرجاء الأرض الآن، إلا وتضعه مثالاً أمام عينيها، تريد يوماً أن تصل إليه!
وعندما أعلنوا نبأ وفاته، رحت من ناحيتي أتحري في كل المادة المنشورة عنه، عن تلك الطريقة السحرية التي استطاع هو بها، أن يحقق ما حققه، ولم يكن ما حققه سهلاً علي كل حال.. ويكفي هنا أن نذكر، علي سبيل المثال، أن مهاتير محمد، الذي كان هو الآخر باني نهضة ماليزيا، قد ظل منذ جاء إلي الحكم في بلاده، عام 1981، إلي أن غادره في عام 2005، يحاول أن يستوحي علي الأرض الماليزية شيئاً، مما أنجز «لي كوان يو» في بلده.
إن سنغافورة، كما ذكرت في أول هذه السطور، كانت جزءاً من ماليزيا ذات يوم، وحين يبلغ الأمر بينهما حداً، يحاول معه الأصل تقليد الفرع، واستلهام تجربته، فإن لنا، عندئذ، أن نتخيل حجم ما قام به ذلك الرجل في سنغافورة علي الأرض، لأن القاعدة

في الأشياء، كانت دوماً أن يمشي الفرع، علي خطي الأصل، لا العكس، فإذا ما حصل هذا العكس، بين الفرع في سنغافورة، وبين الأصل في ماليزيا، كان علينا أن نتخيل إلي أي درجة بالضبط، بلغ إنجاز ذلك الرجل الراحل لمواطنيه.
ولأن الرئيس الأسبق مبارك، كان قد تولي الحكم، في العام نفسه الذي تولي في مهاتير محمد في بلده، فلقد عشنا طوال 25 عاماً قضاها مهاتير علي الكرسي، نتمني لو حققنا نحن هنا، ما نجح هو في تحقيقه هناك، أو بعضه الأقل، ولم يكن لنا حظ في شيء من ذلك، بكل أسف، فلقد مضي مهاتير عن الحكم، في 2005، ثم بقي مبارك خمس سنوات أخري، من بعده، لتكتمل له ثلاثون عاماً علي الكرسي، ثم يمضي في النهاية إلي حال سبيله، بينما هذا هو حالنا، وهذا هو حال ماليزيا!
ولعلك تلاحظ أننا حين كنا نتمني علي الرئيس الأسبق، أن يحذو بنا حذو مهاتير، فإننا كنا نتطلع إلي أصل لفرع كبير اسمه سنغافورة، وهو ما يجعلك تطلق العنان لخيالك، لتري به وحده، ماذا فعل الفرع بالضبط، علي أرض بلده، إذا كانت هذه هي حصيلة جهد الأصل في كوالالمبور علي يد مهاتير.
أما كيف فعل «لي كوان يو» ما فعله، فلقد تلخص ذلك في شيئين اثنين لا ثالث لهما، أولهما حُسن إدارة الموارد المتاحة في بلده، وخصوصاً الموارد البشرية، ثم «الانضباط» العام والصارم، في أثناء إدارة هذه الموارد، مع وضع كل خطوط الدنيا، بكل ألوانها، تحت كلمة «الانضباط» هذه، فبدونها، فيما يبدو، لم يكن في إمكان «لي كوان يو» أن يحقق شيئاً، كما أنه بدونها، ليس في إمكان أي حاكم غيره، أن يترك شيئاً باقياً، من ورائه، في وطنه.
الانضباط هي مجرد كلمة أمامك من ثمانية أحرف، ولكنها عند «لي كوان يو» كانت هي السر، ولم يكن عنده سر سواها!