عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ذكريات أثرياء اليهود في مصر

مصر التي كانت .. جميلة ، راقية ، رائعة ، متسامحة ، طيبة ، نظيفة ، مثقفة ، واعية ، واعدة ،وصاعدة .

مصر قبل 1952هي مصر المستقبل التي نتمني أن نراها ، حيث لا تعصب ولا غوغائية ولا جهل ودجل وشعوذة ومشايخ لا حصر لهم وفراغ ديني واخلاقي وحضاري . تتضح تلك الصورة يوما بعد الآخر كلما صدرت مذكرات أو نُشرت ذكريات عن سنوات ما قبل الثورة . ولاشك أن مثل هذه الكتابات تكتسب أهمية كبري اذا انتمت لأناس غير سياسيين وليس لهم حسابات ويعرضون ذكرياتهم لمتعة الحكي فقط.

ويدخل ضمن هذه الكتب كتاب "لوسيتا لاجنادو " الامريكية الصادر بعنوان " الرجل ذو البذلة الشركستين " أو "قصة خروج عائلتي من القاهرة الي العالم الجديدة ." . إن لوسيتا تعمل كاتبة ومحققة بجريدة "وول ستريت جورنال " أحد اكثر الصحف الامريكية انتشارا وهي ابنة اليهودي المصري ليون لاجنادو أحد رجال الاعمال في مصر الاربعينيات وقد اختارت أن تكتب ذكريات العائلة عن وطنها الأم الذي خرجت منه مع عائلتها مضطرة عام 1962.

إن الكتاب الصادر عن "هاربر كولنز " للنشر بالولايات المتحدة ينقل لنا تفاصيل الحياة اليومية للعائلات اليهودية المصرية خلال عهد الملكية ، مع وصف تفصيلي للقاهرة ومبانيها وأحيائها وفنونها وحركات المثقفين فيها . وقد اختارت الكاتبة تعبير " الرجل ذو البذلة الشركستين " تعبيرا عن أناقة والدها و ثراء عائلتها حيث كانت تلك النوعية من الملابس قاصرة علي أبناء الطبقة الارستقراطية .

اليهودي المسرف

لقد حرصت الكاتبة علي تسويق عدة أفكار تصطدم مع قوالبنا الفكرية بشأن اليهود. منها مثلا حكايات عددية تنفي صورة "اليهودي البخيل " التي انتشرت في أفلامنا المصرية ، فهي تحكي أن والدها كان مسرفا يحب السهر والفنون ويلعب القمار ويتناول طعامه في الفنادق الفخمة ويعيش حياة رغدة تتصادم مع الفكرة العامة لدينا "بأن كل يهودي بخيل .." . كذلك تصور اليهود المصريين كمثقفين سمحين أحبوا مصر وبكوا وهم يغادرونها مجبرين . وهناك أيضا اصرار كبير علي تقديم "اليهودي " كضحية مظلومة عالميا خاصة عندما يشير الكتاب الي أن اعدادا كبيرة من يهود المانيا وايطاليا قدموا الي مصر هربا من اضطهاد موسوليني وهتلر لهم خلال الحرب العالمية الثانية .

جنة اسمها القاهرة

وما يلفت النظر أن لوسيتا تتحدث عن مصر بشوق وروعة وانبهار لا حد له . فالقاهرة القديمة هي جنة العالم الساحرة بمبانيها الفخمة ونظافتها الجاذبة ، والحياة فيها متعة من المتع التي يحرص عليها الشباب . إنها تشير الي حياة والدها ليون ليجنادو باعتبارها حياة جميلة ومثيرة حيث يعيش مثل أبناء العائلات اليهودية الكبري في ترف واضح ، يقضي صباحه في شركته وفي البورصة لادارة اعماله ثم يقضي الليل في النوادي الليلية للاستماع الي الغناء ومشاهدة الرقص ولعب البوكر . وغالبا ما تتركز عائلات اليهود الكبري مثل عائلة قطاوي وموصيري ومنشه في الاحياء الراقية كالزمالك والمعادي ، بينما تقطن العائلات اليهودية الفقيرة في أحياء مثل الظاهر والسكاكيني وحارة اليهود . وتتميز الجالية اليهودية في مصر بحرية حركة واندماج نسبي داخل المجتمع ناتج عن سماحة الشعب المصري وايمانه بفكرة المواطنة بشكل يقيني خلال عصر الملكية وما قبلها .

لقد كشفت دراسات حديثة قام بها باحثون متعددون أن اليهود في مصر كانوا أكثر اندماجا منهم في باقي الاقطار العربية . وأذكر كلما استمعت الي أغنية سيد درويش الشهيرة " قوم يا مصري " كيف كان اليهود أحد عناصر الامة المصرية عندما تقول كلمات الاغنية " شفت أي بلاد يا مصري في الجمال / تيجي زي بلادك اللي ترابها مال / حب دارك قبل ما تحب الوجود / ايه نصاري ومسلمين قال ايه ويهود / الاداره فرد واحد م الجنود ."

نجوم الفن المصري

تحدثنا لوسيتا عن والدها ليون ، الارستقراطي الذي يعيش في ترف ويحب الرقص والغناء ويستمتع بلعب البوكر . وقد وصل أبوها الي سن الـ24 دون زواج حتي رأي أمها ايدث وتعارفا واتفقا علي الزواج . قبل ذلك عاش والدها قصة حب شديدة الحساسية مع مطربة مصرية كبيرة وقد حال اختلاف الدين بين زواج الاثنين . وتذكر لوسيتا أن تلك المطربة كانت تعشق ليون لوجنادو لأنه يجيد التعامل بلطف ولياقة مع السيدات وكان يتمتع بجاذبية غير محدودة تجعله معشوق كثير من النساء .

وكانت الاسر اليهودية الغنية حريصة علي تعليم أبنائها تعليما متميزا ، وتذكر لوسيتا أنه كان من الشائع أن يتحدث شباب تلك العائلات معا في حفلاتهم بلغتين أو أكثر الي جانب العربية . ويمكن القول إن أبرز اللغات السائدة بين أبناء اليهود كانت الفرنسية ، ثم الانجليزية والايطالية والالمانية واليونانية .

عندما افتتح الاوبرج عام  1942انتقل والد لوسيتا بحفلات وسهراته الليلية الي هناك ، وكثيرا ما التقي الملك فاروق ولعبا معا البوكر . وكان الملك فاروق يغش في أوراق اللعب لذا لم يكن أحد يستطيع هزيمته . أما والدها فكان حريصا علي تنفيذ مشروعات تجارية تحقق ربحا سريعا في زمن قصير مركزا تجارته علي بيع المنتجات الغذائية خاصة علب السردين وزيوت الزيتون وبعض المنتجات الدوائية . وكان الاطفال ذ لوسيتا وأخوتها سوسيتا وسيزار وايزاك ذ  يلعبون في حدائق قصرهم متمتعين بالمشمش والفواكه الصيفية .

مصر ملاذ آمن.

وفي نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي بدأ تدفق اليهود الالمان والطليان هربا من بطش هتلر وموسوليني ، وقد احتضنهم أقرباؤهم في مصر وبهروهم بالحياة في العاصمة المصرية . لقد أحب هؤلاء فن الرقص الشرقي وكانوا أهم زبائن الراقصات بديعة مصابني وتحية كاريوكا وسامية جمال . وتذكر لوسيتا أن والدها كان معجبا بتحية كاريوكا بشكل خاص لأنها ابتكرت ألوانا جديدة من الرقص مثل الرقص بالسيوف والخناجر .

وتذكر لوسيتا أن الاضرابات الحقيقية في حياة اليهود المصريين بدأت مع ميلاد دولة اسرائيل . في ذلك الوقت تورط الملك فاروق في قيادة الجيوش العربية تجاه فلسطين وأصبحت صورة اليهود في المجتمعات العربية والمجتمع المصري سلبية . وكان العسكريون المصريون يرون ان الملك فاروق قريب في علاقاته الشخصية مع اليهود في نفس الوقت الذي يقود فيه الحرب ضد الدولة اليهودية .

وتحكي الكاتبة عن السبت الحزين في 26 يناير عام 1952 عندما اشتعل الغضب حرائق في وسط المدينة وتم تخريب ممتلكات كثير من الاجانب واليهود وحتي بعض المصريين الاثرياء . إن الغضب يوم حريق القاهرة كان أعمي حيث أضرمت النيران في دور السينما والبنوك والنوادي والمحلات التجارية الكبري والمطاعم لعدة ايام . كما أحرق الغاضبون فندق شبرد وماتت فتاة يهودية في الحريق . وتشهد الكاتبة الامريكية أن الغضب المشتعل خلال حوادث 26 يناير 1952 لم يكن موجها ضد اليهود ، وإنما كان ضد البريطانيين والمشكوك في مناصرتهم للاحتلال البريطاني ، مع ذلك كان هناك ضحايا كثيرون لم يرتكبوا خطأ . وتذكر الكاتبة أن معظم عائلات اليهود وجهت

أصابع الاتهام في حريق القاهرة الي جماعة الاخوان المسلمين والحركات الاشتراكية الصاعدة .

المهم أن هذا الحادث كان بداية خروج اليهود من مصر . فقد انتهي الحل بكثير من أبناء الطائفة الي البقاء في منازلهم أياما طويلة خوفا من الانتقام العشوائي من بعض الغاضبين . " نحن ابناء هذا الوطن " هكذا قالوا ، لكن الكلام لم يكن مفيدا في ظل الغضب الشعبي ، الذي نجح قادة ثورة 23 يوليو فيما بعد في استثماره استثمارا جيدا .

أيام حزينة

في أيام قليلة تغير كل شيء . سقط الملك وتولي العسكريون وتنازل الملك عن عرشه وغادر علي ظهر المحروسة . تتذكر عائلة لوجنادو مشهد سيارات الملكية وهي تغادر بلونها الاحمر والناس تودعها بنظرات حزينة في شرفات المنازل . كان الملك فاروق يمتلك عدة سيارات من طرازات فريدة كان أبرزها سيارة رولز فانتوم ، وأخري فيراري ، وثالثة الفاروميو ، واخري كاديلاك وغيرها . بعد سقوط الملكية سارع كثير من الناس بطلاء سياراتهم باللون الاحمر وقد صاحبت الغاء الباشوية والبكوية عملية تغيير شاملة لأسماء شوارع القاهرة . تم تغيير اسم شارع الملكة نازلي، حيث تسكن عائلة لوجنادو الي شارع نهضة مصر ومن قبل كان الملك فاروق قد غيّرَ اسم الشارع الي شارع الملكة بعد خلافاته الشهيرة مع امه. أما شارع فؤاد فقد تم تغييره الي شارع 26 يوليو وهو يوم تنازل الملك فاروق عن عرشه . كما تم تغيير اسم ميدان سليمان باشا الي ميدان طلعت حرب رغم أن سليمان باشا هو القائد الفرنسي الذي أسس ودرب أول جيش مصري حديث في عهد محمد علي .

وبعد تأميم قناة السويس وخروج عبد الناصر من حرب السويس زعيما بدأت مصر تغييرا واضحا في تشكيلها الاجتماعي وكان علي العائلات اليهودية الغنية أن ترحل . في 9 نوفمبر عام 1956 أمهل عبد الناصر كل من يحمل جواز سفر فرنسياً أو انجليزياً 72 ساعة للخروج من مصر وقد خرج كثير من المدرسين والمعلمين والمهندسين والاطباء المدنيين دون ذنب لهم، رغم ان كثيراً من هؤلاء ولدوا في مصر ولا يعرفون حياة لهم خارجها . وقتها ـ كما تقول لوسيتا ـ  بدأ كثير من الشباب في توديع أهلهم والسفر الي العالم الجديد ، ولم يكن السؤال المطروح بين عائلات اليهود الثرية : هل نسافر أم لا ؟ ولكن كان السؤال : متي نسافر ؟ .

علي أي حال لم يسافر والدها حبا في مصر ، رغم سفر كثير من أقربائه الي اسرائيل وانجلترا وامريكا . كانت اسرائيل مختلفة تماما عما ظن اليهود المهاجرين ، فالطقس لم يكن جيدا وحكي بعض من هاجر من أقربائهم أنهم كانوا يوضعون في مستوطنات بدائية ضيقة ، وكانت الحياة بائسة ولا يوجد أدني اهتمام باليهود الشرقيين حتي أن خالتها اصيبت بسرطان الرئة بعد وصولها اسرائيل بشهور بسيطة رغم انها لم تدخن في حياتها سيجارة واحدة . وكل يوم كان والدها يؤجل الرحيل متعلقا ببقايا أمل في حياة مستقرة ،الي أن تم تأميم شركاته واحدة تلو الاخري ولم يجد بداً من الرحيل علي ظهر باخرة مع مئات العائلات اليهودية والاجنبية الي حيث لا يبغي ولا يتمني .

"رجعونا " مصر

تصف لوسيتا السفينة التي حملتهم الي فرنسا بالسجن الكئيب الذي ضم أطنانا من الحقائب والرجال والنساء والاطفال . وتذكر الطفلة التي كان عمرها 6  سنوات في ذلك الوقت كيف صرخ والدها فور تحرك السفينة "رجعونا مصر " وأخذ في النحيب بتأثر شديد . ومرت الباخرة باليونان حيث هبط بعض المسافرين ثم بإيطاليا حيث هبط آخرون واخيرا في فرنسا حيث هبط الباقي . وهناك بقوا سنوات قليلة قبل أن يتحركوا مرة اخري الي امريكا .

بعد ذلك بعقود وفي 2005 ستزور لوسيتا لوجنادو بلد اجدادها مرة أخري بصحبة زوجها دوجلاس فيادين الصحفي الامريكي . وستسير في نفس الشوارع التي عرفتها طفلة صغيرة وستذهب الي "جروبي " الذي اعتادت الجلوس فيه مع والدها وستلحظ كم تغيرت مصر وكم تغيراً ناسها .

ولاشك أن ذكريات العائلة المصرية اليهودية تثير كثيراً من الشجن ، لكن الموضوعية تدفعنا ان نشير الي أن الكاتبة تجاهلت عدة وقائع تاريخية كانت سببا في تشويه صورة اليهود المصريين من أبرزها فضيحة "لافون " عام 1954 عندما قام شباب يهودي بتوجيه من اسرائيل بوضع طرود متفجرة في بعض المنشآت الامريكية بالقاهرة . لكن علي أي حال فإن اخراج يهود مصر لم يكن قرارا سياسيا سليما لأن بعض اليهود المصريين كانوا بالفعل " مصريين " .