رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

من روضة الديمقراطية إلي المعهد العالي للدفاع التآمري!!

 

كان لي قريب فلاح طفل ثائر، وكان سيدنا يحفّظه القرآن الكريم مع والدي طفلا، وتوقف مستقبله علي أن يردد وراء »سيـّدنا« في الكتاب الآية الكريمة »رُبَـمَا يوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ«، لكن الطفل أصرّ أن يشدد باء »ربَـما« لتصبح »ربّما« بخلاف ما جاء بنص التنزيل الكريم، ويصرّ »سيدنا« علي تصحيحه طبعا، لكن الطفل العنيد رأسه وألف سيف ألا يستجيب لسيدنا، وهات يا مدّ علي الفلكة بلا طائل، حتي يئس الطفل، ويئس سيدنا، وذهب إلي عم والدي (كان جدي قد مات)، وقد قرر أمرا، وقال له بحسم نهائي: »يا خالْ: أنا كرهت العلم والتعليم«، وتوقف عن الدراسة نهائيا.

وتمضي أربعون عاما  تقريبا، ويتخرج والدي في دار العلوم ويعمل ويشتري أرضا، ثم يكبر زميله الطفل إبراهيم ليصبح »عم إبراهيم«، عاملا زراعيا أجَرِيا باليوم، وأتعرف علي علاقتهما ذات يوم، وعم ابراهيم يعزق الأرض عندنا في عز الشمس مع أجراء آخرين، ووالدي يباشر العمل وراءهم،  وهو فارد  الشمسية يتقي الشمس، وإذا بأبي يداعبه في حضوري قائلا: يعني يا أبوخليل كان جري إيه لو كنت سمعت كلام سيدنا وقريتها »ربَـما«، مش كان زمانك صاحب أرض زيي وماسك شمسية بدال حـَنـْية ضهرك عالفاس كده؟ في عز »نقرة القيالة« فيرد »عم ابراهيم«: »جري إيه يا توفيق افندي، الله !!! الحمد لله،  كل واحد بياخد نصيبه«، ويضحكان معا، وأسأل والدي عن مغزي هذا الحوار، فيحكي لي الحكاية السالفة الذكر.

هذا هو الفلا ح الجميل الذي يستأهل كل مقاعد مجلس الشعب وليس فقط  50٪ منها، لا أعتقد أن أي دستور في العالم، أو عبر التاريخ، قد حوي مثل هذه المادة، مهما بلغت اشتراكيته، المسألة ليست في حذف هذه المادة أو إثباتها، بل في دلالة استمرار التعامل مع وعي الناس بهذه الطريقة السطحية، مع أن تعريف الفلاح أو العامل ظل إشكالة  لغوية إجرائية قانونية طوال ستين عاما، الذي يريد أن يعرف تعريفا لمن هو فلاح، إن لم تكن أتيحت له مثلي فرصة بمثل هذا: فليقرأ رواية »لحس العتب« لخيري شلبي، أو »أيام الإنسان السبعة«.. حتي فلاح رواية  »الأرض« لعبدالرحمن الشرقاوي لم يكن فلاحا مصريا خالصا، فبعضه مستورد.

تذكرت حكاية عم ابراهيم: هذا الفلاح الأبي العنيد، وأنا أتراجع في روضة أطفال الديمقراطية من كي جي تو (2002) إلي كي جي ون (2011) برغم تعرفي مؤخرا علي ديمقراطية حقيقية من خلال ميدان التحرير ثم يوم الاستفتاء (19 مارس)، لكنني ما كدت أتقدم أملا في الانتقال إلي سنة أولي ابتدائي في مدرسة الديمقراطية، حتي صدر البيان الدستوري يوم الخميس الماضي، فقفزت من فوق سور المدرسة، وعدوت إلي شيخي نجيب محفوظ شاكيا، وقلت له: »يا خالْ نجيب، أنا كرهت الانتخابات والدستور«، وقررت، برغم كل الإيجابيات ألا أعود إلي مسخرة صناديق الانتخاب الفردي، أو نكتة العمال والفلاحين، وحين سألني شيخي كيف سأواصل نموي السياسي وأنا لا أفك خط الديمقراطية هكذا؟.. قلت له إنني سوف »أحوّل المسار«، إلي أن يحقق الإنسان المعاصر بإبداعه المتجدد آلية أخري تحترم وعي جموع الناس، ولا تركز علي دغدغة غرائزهم بالتعاطف الزائف، أو ظاهر التدين.. نظر إلي شيخي مشفقا، وقال، ألم أقل لك دائما: »إن مضاعفات وأخطاء الديمقراطية لا تصححها إلا الديمقراطية«، قلت له: »لا تخف علي، فلن أستسلم أبداً لما هو أسوأ منها، سواء كان حكم العسكر الدائم أم حكم الحزب الواحد، أم الفرد الأوحد«، قال: »لقد فرحت بك حين أعادك ميدان التحرير إلي مدرسة الديمقراطية طائعا مختارا، وأملت فيك خيرا«، قلت: »لكن ديمقراطية ميدان التحرير شيء آخر، فهي تعقد في حوش المدرسة، وليس في فصولها، ولكن ما إن عين الناظر تلو الناظر، حتي خاب أملي«.. قال لي: »ألم تستعجل؟«.. قلت: »البيان الدستوري واضح«، قال: »هذا بيان مؤقت«، قلت: (إن به كل معالم ما هو قديم، إن عيبا واحدا لا يتفق مع المنطق السليم، يفسد كل ما سواه، إقرار الانتخاب الفردي دون القائمة، ثم هذه النسبة التي دافعوا عنها بأنها من »رائحة عبدالناصر« تكفي أي منهما للحكم علي البيان، أليس الرئيس مبارك من رائحة عبد الناصر؟.. ألم يتذكر أحدهم كيف كان يتم الانتخاب الفردي بعيدا عن ميدان التحرير بكل ما يعني؟!! وهل يمكن أن يتم بغير ما كان يتم به؟).

قال شيخي: »مازلت عنيدا، أنا مشغول علي مستقبلك الديمقراطي«.. قلت له: »لقد مهد البيان السبيل لديمقراطية العائلات والقبائل والمصالح والوعود بالجنة وربما العلاج علي نفقة الدولة!!«.

سألني شيخي: »ما اسم هذا المعهد الذي حوّلت إليه المسار؟ وأين يقع؟«..  قلت له اسمه: »المعهد العالي للتدريب التآمري لحفظ الحياة وحفظ النوع«، سأل: »وهل اطلعت علي المقررات؟«.. قلت: »إنها تتضمن البرامج التآمرية البيولوجية التي حفظت بقاء من تبقي من الأحياء حتي الآن (واحد فقط من كل ألف عبر تاريخ الحياة، ومن بينهم الجنس البشري)، إنه يدرس كيف نترجم هذا البرنامج التطوري الرائع الذي حافظ علي الحياة، إلي ديمقراطية أصدق، تختبر الوعي العام، ولا تكتفي بألعاب العقل الظاهر المنقاد  في كثير من الأحيان بغرائز الخوف والتحيز«.. قال شيخي: »لكن التفكير التآمري يبرر سلبياتنا حين نضع اللوم علي الغير أكثر

مما يحفزنا نحن علي الخروج مما وصلنا إليه«، قلت له: (هذا هو التفكير التبريري لا التآمري، إن الذين يصفون دفاعنا عن استقلالنا  بأنه تفكير تآمري يتغافلون عن الذين يمارسون تفكيرا استغلاليا استعماريا وهم يوهمونا أنه »التفكير العالمي الجديد«!، وأنهم بهذا التفكير الأحادي المغـِير يحذقون استعمال تكنولوجيا الإبادة الذكية بأسماء حركية أو أسماء تدليل علمية أو سياسية وقائية أو استباقية).. ثم أضفت: »الأحياء التي بقيت حتي الآن، يا خالْ، لم تبق بسبب ذكاء خططها الخمسية أو بسبب الحصول  علي أعلي الأصوات في صناديق انتخاب البقاء، أو لنجاحها في زيادة الدخل القومي بناء عن توصيات البنك الدولي للنمل أو للذباب أو للفيلة أو للفهود أو حتي للقرود والسحالي، (وكلها من الأحياء التي قاومت الانقراض)، ولكنها بقيت لأنها استطاعت أن تحل شفرة البقاء بآليات الصراع البيولوجية  المتاحة من أول الحصول علي المواد الأساسية لاستمرار الحياة، حتي التكافل مع الطبيعة المحيطة والأحياء الأخري الأذكي تآمريا«.

قال شيخي: »وما علاقة ذلك بكل ما جري ويجري، من أول انتفاضة شباب 25 يناير التي ألحقتك ولو لهذه الفترة القصيرة بمدرسة الديمقراطية؟«.

قلت له: »لقد انتهت المساحة المتاحة للمقال تقريبا، ولم يبق ما يسمح إلا بالخطوط العريضة للمقال القادم«.

قال: فما هي خطوطك العريضة  لكي أطمئن عليك حتي الأسبوع القادم؟

قلت: أنا أتصور أن الثورة إبداع حيوي: هي حمل ناجح فولادة واعدة، ومثل كل إبداع هي معرضة لإجهاض محتمل، الثورة تعلن ولادتها باندفاعة  إفاقة جماعية، ثم تتطور بقدر ما أعدّ لها قبلها، وأيضا بقدر ما يستطيع مبدعوها أن يحافظوا علي توجهها حتي تكتمل.. الإبداع الذي هو حمل طبيعي حتي لو كان سفاحا يظل مشروع ثورة رائعة، ثم إنه حتي لو تم الوضع طبيعيا دون مضاعفات، فلابد من رعاية الطفل لينمو حتي يصبح ثورة يافعة قادرة محيطة؟

قال شيخي: وما علاقة ذلك بالتفكير التآمري؟

قلت: التفكير الحريص علي البقاء يلزمنا أن نتساءل: يا تري ماذا جري هكذا فجأة لشعوب المنطقة العربية ليفيقوا حتي يبدوا وكأنهم هكذا مرة واحدة انتظموا في سلسلة متتابعة مذهلة من انتفاضات تهدف إلي أن تطيح بحكام كانوا ظلمة طوال عقود (أو قرون)، وظلوا ظلمة حتي تاريخه؟.. هل هي صلاة جماعة تستجيب لأذان »حي علي الحرية«؟.. أم أنها إنفلونزا الطيور الثائرة تنتقل عبر موجات الأثير لتصيب ناس المنطقة بأعراض تشبه الثورة؟.. وحتي لو صح هذا الاحتمال الأخير فعلينا أن نعرف أننا نستطيع أن نحولها من خلال التعرض للإصابة إلي تخليق  مناعة تطورية مناسبة، ومن ثمَّ: إلي ثورة حقيقية ممتدة.

قال شيخي: إياك إياك أن تشوه ما جري بأن تعزوه إلي عوامل خارجية كما زعم البعض، هؤلاء الشباب لا جدال في نقائهم وتلقائيتهم.

قلت: من حقنا أن نفرح لهبوط درجة حرارة الظلم، واختفاء طفح بثور التعذيب، ونحن نترحم علي أرواح شهدائنا معترفين بالجميل، متعاهدين علي الاستمرار، ولكن علينا أساسا أن نرعي طفل الإبداع الجماعي حتي تنمو الإنبعاثة إلي ثورة. إن المرض النفسي يمكن أن يحل محل الإبداع الثوري مالم تستثمر الخطوات الأولي للإبداع في الحفاظ علي التوجه حتي يكتمل، مظاهر المرض قد تتفاقم بالتداوي بالديمقراطية القديمة التي انتهي عمرها الافتراضي أو بالديمقراطية المغشوشة المستوردة حديثا، باهظة الثمن، كما قد تظهر أعراض التسمم بالأفكار الدوائية المسمومة تسليما، والمسرطنة تبعية؟

قال: وهل سوف تدرس طرق الوقاية من كل هذا في معهدك الجديد؟

قلت: لست متأكدا، لكنك أنت  الذي علمتنا ألا نيأس وألا نستسلم.

www.rakhawy.org