رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

نبض الثورة.. ودورة القلب.. وإيقاع الحياة!

ما هذا الذي يتواصل ضد كل قوانين الحياة والإبداع والتطور والحضارة؟

بعد كل الخير الذي سيره الله رحمة بهذا البلد علي أيديكم فأيدينا معكم، نحن ننزلق إلي أقبح ما يمكن أن نصل إليه حتي علي يد من سرقوها وهم يزعمون الآن - ربما ببعض الصدق - أنهم كانوا يبنون اقتصادا قوميا لمواجهة الإغارة المالية العولمية، ليس هذا وقت مناقشة هذا الاحتمال، لكن استمرار الوضع هكذا، بما يعلنه اضطراد العد التنازلي نحو غول الجوع وأشباح الخراب والموت عطشا، ينبغي أن يوقف فورا وبنفس حماس الشباب وثوريتهم.

آن الأوان أن نحافظ علي شبابنا ممن يسحبونهم إلي ما يمكن أن يقلب كل فخرنا بهم، وفخرهم بأنفسهم إلي ما يقترب من مرتبة الخيانة العظمي.

لو سمحتم: يا أيها الشبان والصبايا، لا تجعلوا من أزحتموهم من علي صدورنا يشمتون فينا، وفيكم.

لو سمحتم: لا تجعلوا آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم في طول مصر وعرضها، يترحمون علي أيامٍ لكم أنتم الفضل في تعرية فسادها.

لو سمحتم: لا تضطروا من يحب مصر بعقل أرجح، ونفس أطول، ومسئولية أشمل، وأمانة أثقل، لا تضطروهم أن يفيقوكم قسرا حماية للوطن، بما يسارع أكثر فأكثر بمزيد من الخراب والموات.

لو سمحتم: الحقوا مصر حبيبتكم بنفس روحكم الشجاعة، ونفس زخم قدراتكم الخارقة.

وبعد:

أنا لا أريد أن أزيد من الخطابة، ولعل هذا هو ما منعني من أن أرص الوصايا مختصرة، فاسمحوا لي أن أقدم صورة مصر الجميلة الآن في تشكيل واقعي حدث لي منذ يومين.

كنت قد عزفت عن السفر للخارج منذ سنوات، إلا مضطرا لإلقاء محاضرة أو بحث هنا أو هناك، صباح الأربعاء الماضي كنت في إحدي هذه الرحلات السريعة القصيرة، دخلت إلي المطار ولم أكن قد رأيت تحديثه الأخير، ودعوت الله أن يوفق الفريق أحمد شفيق إلي تحديث مصر كما حدّثه، لكن يبدو أن إدارة الحرب والمطارات غير إدارة السياسة والناس، وبعد إجراءات بسيطة سريعة منظمة، لم أعرف الطريق إلي إنهاء ما تبقي من إجراءات جوازات السفر، وجدت ضابطين جالسين بعيدا عن مكاتبهم، وأيضا عن احتمال أن يكونوا هم المسئولين عن هذه الإجراءات، تقدمت من أحدهم، وألقيت تحية الصباح، كان في العقد الخامس تقريبا، وسألته عن مكان إتمام إجراءات الجوازات، نظر في وجهي، وأعتقد أنه لم يعرفني شخصيا، ففرحت بيني وبين نفسي حتي لا تحرجني أية معاملة خاصة، تزحزح الرجل قليلا، وهو يفسح لي مكانا لأجلس بجواره، ويمد يده ليأخذ مني جواز السفر الذي كان بيدي ظاهرا، أخرج قلما، وسحب الورقة التي أعطوها لي بداخله، وملأها بنفسه من واقع الجواز وهو يبتسم في تعاطف صبوح، ثم قال لي بهدوء: »مع السلامة«، وهو يشير إلي أين أتجه بعد ذلك، شعرت بطمأنينة عجيبة وشكر غامر، لكنني لم أشكره، أخذت أتأمل وجهه المصري الجميل، ثم قلت له بألم حقيقي: »أنا متأسف«، فقال مندهشا »خيرا متأسف علي ماذا؟«.. قلت له: »علي كل شيء يستأهل الأسف«، فهمَ وصمتَ، ولست أدري أين اغرورقت عيناه بالدموع أولا، أشحت بوجهي قليلا، ثم عدت ألتفت إليه، وأنا مازلت بجواره، وقبلت رأسه وأنا أهدهد ظهره، فاغروقت عيناه وحاول أن يبعد عني وجهه هو الآخر، ثم عاد فمال علي كتفي الأقرب إليه، وقبله، صافحته وانصرفت دون أي ينطق أي منا بحرف آخر.

بعد بضعة خطوات، تذكرت أنه لم يكن معي قلم لأملأ به البيانات أصلا، وأن هذه المبادرة أعفتني حتي من أن أبحث عن قلم نسيته، فسألت شابا مصريا يقوم بتنظيف الأرض في هذا الصباح الباكر، وكنت بجوار محل عملاق، لعله السوق الحرة أو شيء من هذه الأشياء التي لا أفهم فيها، سألته: أين أجد محلا أكثر تواضعا أشتري منه قلما، فأشار إلي ناحية معينة حيث سوف أجد مكتبة لعل فيها ما أطلب، شكرته وتوجهت إلي حيث أشار، وفعلا وجدت مكتبة، لكنها كانت في نفس فخامة السوق الأولي، ولم ألمح بها أحدا، ومع ذلك دخلت، فوجدت المسئول شابا ربما لم يتجاوز الثلاثين يرتب أشياء علي ناحية، تقدمت إليه، وذكرت حاجتي إلي شراء قلم، فقال بترحيب حقيقي، أي نوع من الأطقم تريد؟، تلفت حولي فإذا بها مكتبه تبيع أيضا الهدايا الثمينة، من أدوات مكتبية وغيرها، فضحكت وأفهمته أنني أريد أن أشتري قلما من »أبوربع جنيه« أخطط به ما أقرأ أثناء سفري، ابتسم الشاب وهو يسمع الثمن الذي حددت به طلبي، وقال: »ربع ماذا؟«.. صححت نفسي بسرعة قائلاً: »أعني اتنين تلاتة جنيه«، فقط ليؤدي المهمة أثناء القراءة وأنا مسافر، فضحك، وتأسف، وبدون تردد مدّ يده إلي جيبه، وأخرج قلمه الخاص، وفهمت، واطمأننت أكثر إلي أنه قلم مازال متواضعا لكنه اقل تواضعا مما كان بذهني (لابد أن ثمنه ليس أقل من خمسة أو عشرة جنيهات، لا أعرف)، ناولني الشاب القلم بتلقائية وكرم، حتي خجلت أن أسأله عن ثمنه أو أن أعرض عليه الدفع لما وصلتني الرسالة من وجهه الصبوح، كان الموقف واضحا، قلت له: »وأنت؟.. قد تحتاجه في عملك هنا الآن«، قال: لا عليك، مع السلامة، وأنا سوف أتصرف، ودعا لي، فدعوت له.

قلت لنفسي: »هذه هي مصر«.

وحين وصلت، وأديت العمرة مباشرة، دعوت أثناءها، لمصر وهي تتجسد أمامي في هذين الرجلين، ثم يتلاحق وراءهما وحولهما شباب التحرير، ثم من تيسر من خلق الله جميعا ممن كانوا يطوفون ويسعون معي، من كل لون وجنس، بصراحة، دعوت لكل من خلقه الله، من كل الأديان، واستطاع أن يقاوم التشوه الذي يفرضه السلطان والطمع علينا نحن البشر.

في المساء، بدأ المؤتمر العلمي بمحاضرتي الافتتاحية، وكنت ما زلت أذكر ما حكته ابنتي عن دموع خطيب جمعة 11 يناير في المسجد النبوي الشريف وهو يدعو لمصر بالسلامة والأمان، ودموعه تسيل منه أثناء الخطبة.

قبل أن ألقي أطروحتي العلمية، بدأت مخاطبا الحضور بأنني - وأنا قادم هذا الصباح من مصر - أقرأ في وجوهكم الأسئلة تقفز دون كلمات تسألني بحب واحترام لتطمئن عن »كيف الحال في مصر الآن؟«، قلت لهم: »إنها بخير.. إنها بخير« برغم كل شيء، وحكيت لهم حكاية الضابط وملء الجواز وقلم شاب المكتبة، ورأيت عن بعد في عيون المصريين والعرب الحاضرين ما كان في عيني وعيني ولدي: ضابط البوليس، وشاب المكتبة.

هذه هي مصر

بلغني بمجرد وصولي إلي القاهرة ظهر الخميس نبأ استقالة الوزارة برجلها الشريف المصري الطيب الحاذق، وتكليف شريف آخر مصري طيب حاذق أيضا غالبا، ثم رأيت في اليوم التالي دموع د. يحيي الجمل وهو في وداع رئيس الوزراء، ولم أستطع أن أميز بينها، وبين ما دار بيني وبين الضابط الرقيق، مما ذكرته حالاً.

لو سمحتم، لو سمحتم أيها الشباب، لو سمحتم: أستأذنكم أن أتقدم بوصية واحدة اليوم مما حجبت عنكم نناقشها باختصار، تقول هذه الوصية (السادسة من المجموعة الثالثة): »الوقت ثروة حقيقية أنت مسئول عنها لصالحك وصالح بلدك، صدِّق أنك قادر علي عمل أكثر من ذلك في أكثر من مجال، بطريقة أدق وتوقيت محسوب، أوله وآخره، بشكل أفضل، وأيضا بتصميم مماثل وأصلب«.

يا أيها الشباب والصبايا

أربعون يوما مضت حتي الآن، هي كفاية وزيادة، حققتم فيها، ونحن معكم ووراءكم، ما لم نكن نحلم أن نحققه في أربعين عاما، الأسماء ليست هي الأهم، المطالب ليس لها سقف إن لم يصاحبها اقتراحات برامج تحقيقها منكم، ومن كل من يهمه الأمر: برامج، وبدائل، ومحكات اختبار، ومناهج نقد، فبالله عليكم كيف يتم أي من هذا مع كل هذا الإيقاع السريع هكذا؟

هذا الرقم (أربعون) له عندي دلالة علمية خاصة، بل دينية سواء في تاريخ نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، أم في قصة سيدنا موسي عليه السلام أم غيرها

أنا أنتمي إلي نظرية وضعتُ خطوطها من واقع خبرتي وتاريخي العلمي، محورها الأساسي هو ما يسمي: »الإيقاع الحيوي«، وهي تؤسس وتفسر كل مظاهر الحياة، من أول التفاعل الكيميائي، حتي مسار التيار العصبي في الأعصاب إلي اختلاف الليل والنهار إلي تبادل الفصول إلي وجه الله تعالي مرورا بدقات القلب ودورات حالات الذات في الحياة النفسية، تنطبق نفس النظرية علي دورات الحضارة، وتبادل الشرعية الثورية مع الشرعية الدستورية، أي أنها تتناول تبادل الانتفاضات الثورية مع بناء الحضارة حتي السقف المتاح، ثم الثورة، ثم الاستيعاب الحضاري، وهكذا.

كنت أنوي أن أتحدث في هذا المقال عن هذه الدورات الطبيعية الحتمية التي لو اختلت مات جسد الدولة (وهو لم يتخلق بعد) وهلك الناس شبابا وشيوخا، حاضرا مستقبلا، تماما مثلما يموت الجسد لو استمر انقباض عضلة القلب تدفع الدم طول الوقت، بلا استرخاء ليمتلئ من جديد بدم يحتاج دفعا جديدا،

وهذا ما سأعود إليه تفصيلا في مقالِ قادم.

يا أحبائي وحبيباتي من الشباب والصبايا:

ألم يئن الأوان أن تسترخي عضلات الثورة، لا كسلا، لكن لتمتلئ بدم جديد، فنبض جديد؟

ألم يئن الأوان أن تنقلب تفجرات طاقات الغضب إلي قدرات بناء ما تتوجون به ثورتكم؟ ثورتنا؟

ألم يئن الأوان لننتقل من التركيز علي سقف المطالب إلا البحث عن مقاييس متابعة الأداء؟

ألم يئن الأوان أن ننشيء معا دولة لها بوليس يحمي أهلها، وجيش يحمي حدودها، واقتصاد يحمي استقلالها، وإبداع يبرز دورها؟

ألم يئن الأوان أن يقود الشباب، المسيرة باستيعابها قبل أن يقودنا ويقودهم غيرهم، إلي مصالحهم دوننا؟

لو سمحتم.. لو سمحتم: ماذا وإلا فالبدائل أفدح وأقسي من كل تصور.

لو سمحتم: بفضلكم، ونحن معكم، يا رب سترك.

لو سمحتم: نحن نحتاج إلي إثني عشر شهرا - علي الأقل - مليئة باليقظة والنقد والمتابعة والبناء، إثني عشر شهرا علي الأقل بدون ميدان التحرير إلا رمزا وذكري جميلة حافزة وواعدة.

لا تشوهوا الميدان الجميل: ربنا يخليكم لمصر، ويخليها بكم.

لو سمحتم:

ونكمل الأسبوع القادم تفاصيل أكثر ارتباطاً بالعنوان.

www.rakhawy.org