رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الراحل الجليل والاختلاف النبيل

بسبب سفرى، علمت متأخرا، لم تكن تنقصنى أحزان فقد جديد، فى هذه المرحلة بالذات، كما لم يكن ينقص مصر أن تُحرم من حماس وعطاء ونقاء أحد عشاقها المخلصين، ومع ذلك فلا أنكر أنه مرّ بداخلى خاطر أن الرب قد رحمه من أن يشارك فى كل هذا الألم وكل هذه الحيرة فى هذه المرحلة الدقيقة من حياتنا،

ثم تراجع هذا الخاطر لأن الدكتور سمير حنّا شخصيا نبهنى الآن - بعد رحيله- ألا أنسى أنه من المحاربين العظام، وأنه لا يرتاح إلا وهو يساهم فى معركة نبيلة من أجل مصر، ومن أجل الناس الأوْلى بالرعاية، فتأكد لى أنه لم يرحل علاقتى به كانت أعمق من ظاهرها، فقد كان – ومازال - ما يربطنى به وثاقين لا أعلم أيهما أمتن: وثاق «الاختلاف والحوار» فى ناحية ووثاق «الحب والاحترام» فى الناحية الأخرى، كنا معاً نتفق فى حمل الهم، والمشاركة، فى الأمل، والعمل.
فى لجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة، ولأكثر من عشر سنوات تعلمت منه معنى نبل الاختلاف وضرورته على كل المستويات تقريبا، كان اختلافا معلنا مشهودا عليه مباركا فيه له عمقه ودلالاته، وبرغم أن أيا منا لا يتنازل عادة عن موقفه أثناء الحوار، لكننى بعد أى اجتماع، أو محاضرة، أو ندوة، كنت أعود وهو معى، واعتراضاته وملاحظاته العلمية المنهجية تملأ وعيي، وترن فى وجدانى حتى وأنا نائم، فيتعدل موقفى قليلا أو كثيرا، وأخاف منه وأحبه معا، وأجدنى أكمل الحوار بينى وبينه وأنا أعد دفاعى فى داخلى استعدادا للجولة التالية.
كان الاختلاف متعدد المحاور، فهو يقدس العلم تقديسا لا حدود له حتى كدت أرى أن العلم بالنسبة له كاد يصبح دينا له كل معالم الدين، حتى أنه كان يهب هبة الفارس الشجاع إذا اقترب أحد من محرابه ليدافع ببسالة عن منظومة راسخة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، حتى خيل إلىّ أحيانا أنه يكفر كل من يخرج عن «ما أتى به العلم بالضرورة»، كنت أشعر وكأنه يمكن أن يتهمنى – مثلا – بالهرطقة، لكننى أكتشف كل مرة تقريبا أن ذلك كان شعوريا أنا أكثر من أنه كان موقفه، وحين كان يصلنى منه رعبه من زحف الخرافة على مجتمعنا وأساليب تفكيرنا، كنت أحترم ذلك وأؤيده فى نفسى، وعلانية، بكل ما أملك، لكن حين يصل الأمر أن يهاجم «الإمبريقية» العملية الماثلة التى هى العمود المحورى الذى يدعمنى فى مهنتى وليس فقط فى منهجى العلمى، كنت أرفض موقفه هذا وأنبهه أننى لو تنازلت عن معنى ومغزى ودور ما هو «إمبريقى» فأنا أتنازل عن فكرة التطور التى هى محور وجودى، ورأس مال مهنتى، فينبهنى بطيبة بعد أن أهدأ أننى أتكلم عن المهنة وليس عن العلم، وعن موقفى وليس عن المنهج، فأكاد أتراجع لكننى لا أفعل، كنت أحاول دائما أن أوصل إليه، وإلينا، مخاوفى من أن نتعامل مع ما هو علم كأنه أيديولوجيا مغلقة المنهج، فيصححنى أن تلك هى مخاوفى أنا، وأنها ضد التعريف الموضوعى للعلم القابل دائما للتطور والتقدم.
وامتد اختلافنا إلى صفحات الصحف، ورحب كلانا بذلك أملين أن تصل وجهات نظر متعددة لمن يهمه الأمر من الخاصة والعامة، كتب يوما فى ‏ملحق‏ ‏أهرام‏ ‏الجمعة‏ 10 ‏مايو‏ 1996 ‏‏يقول‏: «‏.. ونتج‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏التقدم‏ ‏فى ‏العلوم‏ (‏الأساسية‏) ‏ازدهار‏ ‏فرعين‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏البشرية‏: ‏فقد‏ ‏تقدمت‏ ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ (‏علم‏ ‏النفس‏، ‏واللغويات‏، ‏العلوم‏ ‏الاجتماعية‏، ‏الاقتصاد...‏ ‏إلخ) ‏تقدما‏ ‏كبيرا‏ ‏باستعمال‏ «المنهج‏ ‏العلمى» ‏فى ‏دراساتها‏، ‏كذلك‏ ‏حدثت‏ ‏قفزة‏ ‏خطيرة‏ ‏فى ‏استخدام‏ ‏العلم‏ ‏كأساس‏ ‏لصناعة‏ ‏تكنولوجيا‏ ‏متقدمة‏ ‏تساعد‏ ‏الإنسان‏ ‏على ‏إثراء‏ ‏حياته‏ ‏وازدياد‏ ‏عمقها‏، ‏وهكذا‏ ‏أصبح‏ ‏العلم‏ ‏مثل‏ ‏شجرة‏ ‏باسقة‏ ‏جذورها‏ ‏هى ‏العلوم‏ ‏الأساسية‏، ‏وجذعها‏ ‏هو‏ ‏المنهج‏ ‏العلمى ‏وفروعها‏ تنتج‏ ‏ثمارا‏ ‏من‏ ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏والتكنولوجيا‏» ‏ولما‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏مهامنا‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نعلم‏ ‏الناس‏ ‏الحوار‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏التفكير‏ ‏العلمى، ‏فلنبدأ‏ ‏بأنفسنا‏...» ‏(انتهى كلام أ. د. سمير)‏.‏
فرددت عليه فى الأهرام أيضا بتاريخ: 17/5/1996 بما يلى».. بلغنى ‏من‏...‏ ‏المقال‏، ‏أن‏ ‏منهج‏ ‏العلوم‏ ‏الأساسية‏ «‏هو‏» ‏المنهج‏ ‏العلمى (الأساسى)، ‏وبالتالى، ‏فإنه‏ ‏متى ‏طبق‏ ‏على ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏، ‏فسوف‏ ‏تزدهر‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ ..‏إلخ‏» ‏‏وفى ‏ذلك‏ ‏أقول‏: إن‏ ‏المنهج‏ ‏العلمى ‏ليس‏ ‏منهجا‏ ‏واحدا‏، ‏لا‏ ‏هو‏ ‏كان‏ ‏كذلك‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏كذلك‏، ‏كما أن المنهج‏ ‏العلمى ‏ليس‏ ‏نتاج‏ ‏العلم‏، ‏لكن‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏، ‏التفكير‏ ‏العلمى ‏هو‏ ‏الأصل‏ ‏فى ‏صياغة‏ ‏المنهج‏ (‏المناهج‏) ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وفى ‏صياغة‏ ‏الثقافة‏ ‏العلمية‏ ‏عامة‏، ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نرتب‏ ‏العلوم‏ ‏بما‏ ‏يعنينا‏ ‏فى ‏الثقافة‏ ‏العلمية‏ ‏فليكن‏ ‏ترتيبها‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تثرى ‏التفكير‏ ‏العلمى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تنوع‏ ‏مناهجه‏،... إلخ.
وحين قدمت ندوة «العلم المعرفى والثقافة العلمية» فى المجلس الأعلى للثقافة وأعلنت فيها كيف أن العلم المؤسسى اتَّهَم العلم المعرفى بما يطرده من حظيرة العلم أصلا، وتحديداً، بهرطقتين: الأولى: حين يزعم: هذا العلم المعرفى «إن التفكير ليس فقط بالرموز». والهرطقة الثانية حين يرفض احتكار المخ (والعقل) لعمليات المعرفة حيث يؤكد هذا العلم الجديد أن: «.. المعرفة ليست فقط فى الدماغ (المخ)»، وعلى

هذا الأساس طرد من الكنيسة الحاسوبية المؤسسية العظمى!
ولم يقبل الصديق الراحل أبدا لى أن يستدرجنى هذا العلم حتى لو سمى «المعرفى»، ربما خوفا علىّ من أن استسلم لاحتمالات السيولة والحدس، ومع ذلك، ولذلك: تماديت أنا فى هذا الطريق، لكننا أبدا لم نبتعد عن بعضنا ليزيدنا اختلافنا ثراء.
وفى ندوة اللجنة (لجنة الثقافة العلمية) عن حركية اللغة بين الشعر والشارع ظهر محور آخر للاختلاف حين أعلنت موقفى من لغة الشارع (اللغة الشبابية ولغة البيئة) باعتبارها النتاج الحى لوعى حقيقى موضوعى يتحرك، وقارنت لغة الشارع هذه بدور الشعر فى تجديد اللغة، سامَحَنى أ. د. سمير بطيبة أبوية، فبرغم خروجى عن منهجه المقدس، ربما شفع لى – فى هذه المنطقة– احترامه الشديد للشباب وللطبقات العاملة كدحا لتجديد حياتنا بما فى ذلك لغتنا.
كان الفقيد محاربا فذا يطلب النزال دون تردد، ولم يكن يخشى اتساع جبهات القتال دفاعا عن ما هو «علم» حقيقى فهو الذى يقول:
«.. المجابهة قد أصبحت الطريقة الوحيدة لمواجهة ما تواجهه مصرنا الحبيبة، والقضية ببساطة هى أن العلم فى بلدنا مزدهر، وأننا رغم ما نزعمه أحيانا من تقدير للعلم، فنحن كثيرا ما نقول «علم» ونحن نقصد (تكنولوجيا مستوردة)، بل نحن فى أغلب الوقت نقول «علم» ونحن نعنى الخرافة أو «الخرافة المعلمنة»، وقد استشرت الخرافة فى بلدنا واتسع نطاقها إلى أوسع مدى، فعلاوة على وجودها فى الفئات الأمية كمصدر سيئ للمعرفة، فإنها تنتشر بشكل أخطر بين الطبقات المتعلمة، ولعل أخطر أنواع الخرافة ما يتغلف بغطاء من العلم الزائف»، فأوافقه بينى وبين نفسى لكننا نختلف حتى دون حوار مباشر على تعريف وتصنيف العلم الزائف، فمثلا: أنا أفهم الغيب على أنه دعوة للكشف والإبداع، وهو يخاف علىّ وعلينا من أن يختلط الغيب بظلام الخرافة... إلخ.
لمسات الفقيد الشخصية وعائلته الكريمة كانت أروع شاهد على تحقيق هذه المعادلة الصعبة بيننا، كنا نلمس رقة وحدب رفيقة عمره الأستاذة الكريمة سامية عبد النور، وهى تصحبه لبعض الجلسات لأسباب صحية، فأرى فيها الأم الراعية وهى تبارك نقاشنا، وتفرح باختلافاتنا مرحبه حانية، ولا أنسى أنها تفضلت بعمل «بورتريه» لشخصى فى «الأهرام ويكلى» بالإنجليزية بلغنى منه مدى تقديرها لما أحاوله مع هذا الاختلاف أو بسبب هذا الاختلاف، وقد وجدت فى هذا البورتريه بالإنجليزية معالم فى شخصيتى لم أكن أعرفها، وشعرت أننى أخيرا وجدت من يغوص وراء ظاهر قناع مظهرى – كأنه يعالجنى- ليقدمنى لقراء الإنجليزية ليعرفونى أفضل، وشعرت أن صديقى أ. د. سمير كان - بشكل ما– مشتركا فى هذا الفضل على شخصى.
ثم إنه هو الذى همس لى يوماً باقتراح عشاء سنوى لأعضاء اللجنة فى بيتى، وشعرت كل مره أنه صاحب البيت وصاحب الدعوة لعدة سنوات.
وأخيرا وليس آخرا فقد كان هو وزوجته الكريمة يدعوانى وزوجتى فى كل أعيادهما، التى هى أعيادنا، لتناول العشاء فى بيته العامر مع أسرته الجميلة وعدد من الأصدقاء، فنلتقى فرحين بصدق يتجاوز القبلات والأحضان.
وأخيراً:
أشعر أنه مثل كل الذين لا يرحلون، لم يرحل، وأنه ينتظر منا أن يكون تأبينه هو أن نواصل حب مصر، وممارسة الموضوعية، ورعاية العلم الحقيقى، لنعبُرَ بناسنا، وناس العالم عبر المأزق الذى نواجهه محليا وعالميا، لما نستحقه.
لا تحمل هما يا دكتور سمير وانت فى ملكوته، فسوف نعملها برغم كل الجارى، وأنت معنا.
مع السلامة مؤقتا.

----

أستاذ الطب النفسى