رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الأدلة سرية

 

"انتهزت فرصة ليلة مشرقة لأصعد إلى ناطحة سحاب منخفضة في إحدى الضواحي بقلب البلد ..." هل تجد في هذه الجملة أي منطق؟ كيف تكون الليلة مشرقة؟ والناطحة منخفضة؟ والضاحية بوسط البلد؟ عندما نواجه مثل هذا التناقض الصارخ نستنتج أن المتكلم مجنون، أو أن مصدقه كذلك، أما إذا كان احتمال الجنون مستبعداً، فإن قدرتنا على الاستنتاج تقل، ورغبتنا في السؤال تزيد، لأننا نحتاج أن نفهم.

فقد كان من بين ذرائع  الأمريكان للحرب على العراق عام 2003 وجود أدلة على امتلاك "صدام" لقدرات نووية، ولكن لم يتم الإفصاح عن هذه الأدلة بدعوى أنها سرية، بالرغم من أن الكلمة تحمل معنى البيان والوضوح، إلا أنه تم نحت العبارة التى تعاني من تناقض على غرار "الليلة المشرقة"، ولكن لما لم يكن أي من المتكلم أو المستمع مجانين كان التساؤل: لماذا يتم إخفاء الأدلة؟ هل كان إظهارها يضر بخطط الحرب؟ أم بمحاولات العثور على الأسلحة النووية العراقية؟ أم أنه لم توجد أدلة من الأصل؟ أيا كانت الإجابات، فإن اللجوء إلى استخدام التناقض في اللفظ يفتح الباب أمام الارتياب في الفعل، ومن ثم الارتياب في الفاعل.

 

لا يمكن أن نفترض أن كل ما يقدم عليه الساسة يقره المنطق أو القانون دائماً، ولذا فالمعاهدات الخفية والدبلوماسية السرية وحروب المخابرات أمور تكاد تكون من الثوابت، بالرغم من إعلان الرئيس الأمريكي "وودرو ويلسون" أن الدبلوماسية السرية كانت هي السبب في إندلاع الحرب العالمية الأولى، وقرر عام 1915 أن "الدبلوماسية سوف تقتفي الصراحة أمام الجميع"! وكان هذا ما استند عليه البلشفيك بعد أسبوعين من نجاح ثورتهم في أكتوبر عام 1917 فنشروا المعاهدات السرية التي عقدها القيصر أثناء الحرب، وشرح تروتسكي -فيلسوف الثورة وأحد قادتها- أن الدبلوماسية السرية "هي سلاح الأقلية المالكة لخداع الأغلبية وإخضاعهم." ولكن لا الأقلية توقفت عن الخداع، ولا الأغلبية استعصت على الخضوع.

لكن المشكلة التي تواجه الساسة هي عندما لا يكون هناك مهرب من مواجهة الرأي العام، فيضطرون إلى استخدام ملكاتهم لاختيار ألفاظ تخفي من المعلومات أكثر مما تكشف، وهو ما تبدى في إعلان أمريكا عن قتل ابن لادن، والتناقض في المعلومات الذي لا تعرف إن كان خطأً أم مقصوداً، ثم الإعلان عن دفن الجثمان في البحر، وأخيراً قرار الرئيس أوباما عدم عرض صور الجثة، وكان مما قاله: "ما يهم أنه كان يستحق العدالة، وقد نالها." ومن ثم فالموقف الإعلامي الأمريكي كالتالي: لا توجد جثة، ولم تقم جهة محايدة باختبار الدي إن إيه، ولن نعرض صوراً، ولكن صدقونا! في الحقيقة

هذا مناخ مثالي لتفريخ الإشاعات ونظريات المؤامرة، وتناقض كاشف عن أن في الأمور أموراً.

فإذا كان لديك ما يجهض الشائعة ولا تستخدمه فأنت تفتح المجال لتساؤلات ليست في صالحك، وشائعات لا تخدمك، كالشائعات التي تملأ سماء مصر عن رأس النظام السابق وأسرته وأركانه، فمرة تسمع أن مبارك في "أبها" للعلاج، ومرة في ألمانيا، وأخرى الرئيس وأسرته يغادرون إلى السعودية بطلب من الملك بعد العفو عنهم، ثم تسمع عن الجو الأسطوري في سجن طره والطعام القادم من فندق "الفور سيزونز،" وبالرغم من مرور أكثر من 100 يوم على رحيل النظام إلا أنه لا توجد صورة واحدة أو تقرير مصور أو أي أدلة "غير سرية" تريح الرأي العام، حتى اللجنة التي زارت سجن طرة للاطلاع على أحوال رموز النظام السابق لم تقابل أيا منهم، بل إن محمد الدماطي وكيل لجنة الحريات وأحد أعضاء اللجنة قال: إنهم لم يشاهدوا سوي حوائط و أرضيات السجن! لماذا نتحدث عنهم دون أن نراهم؟ هل هو نفوذهم؟ أم تقصيرنا؟ أم أن في الأمور أموراً؟

إن جو الثورات بطبيعته مفعم بعدم اليقين، وانتشار الشائعات، والخوف من القادم، والشك حتى في المسلمات، وتخوين الأنقياء قبل الأشقياء، ومن ثم فإن إخفاء المعلومات، أو تجاهلها، أو حتى تأكيدها بغير دليل يزيد الأمر سوءاً، والناس شكاً، ويجعلهم فريسة سهلة لمن يريد خداعهم، أو بث الفرقة بينهم، أو إلهاءهم. ليس من الحصافة أن يكون لدينا مشكلة ولا نعالجها، أو حل ولا نستخدمه. نريد أن نفهم سر الطبقة العازلة التي تحجب جسم النظام السابق ورأسه عنا، فلا نراهم، أو نسمعهم. نريد أن نستبعد فرضية أن في الأمور أموراً.