رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تنويعاتٌ على "الجامعة"

كثيراً ما كانت تشغلنى في طفولتي المسميات؛ فأجدني متحيراً تجاه العلاقة بين الشئ ومسماه، وأتساءل: لماذا "القمر" اسمه هكذا؟ وكيف حصلت الشمس على اسمها؟ كانت الأسئلة أكثر من الإجابات التي كان من الممكن لعقلي الصغير أن يهتديَ إليها، ولكن ذلك لم يوقف سيل الأسئلة، وتحـول الأمـر من لحظـات تفكـير خاطـفة إلى ولعٍ بالبحث عن مدلول اللفظ.

كان اختيار العرب للأسماء عامراً بالدلالة، فالقافلة سميت كذلك رجاء بذهابها ومن ثم عودتها أو قفولها بسلام، و"فاطمة" دعاءً للفتاة أن تكبر وتتزوج وتلد وترضع وليدها ثم تفطمه، و"الإنجاب" رجاءً في نجابة المولود، ولذا كان يقال: أنجبت فلانة في حال المدح، وإذا أريد القدح قيل: أحمقت.

هذه المفردات من السهل معرفة  دلالاتها، على خلاف الألفاظ التي أفرزتها الحضارة، عندما يكون المسمى من الثراء بما يتيح استخراج المعاني الكامنة والدلالات الممكنة.

والحقيقة أن لفظ "الجامعة" كثيراً ما استوقفني وأثار لدى ذلك الشغف َ القديم َ لأتساءل: لماذا الجامعة  جامعة؟ وأىَ شئٍ تجمع؟

هداني تفكيري إلى أن الجامعة مؤنث جامع، وكما أن الجامع سمي كذلك لأنه يجمع الناس غنيهم وفقيرهم  ...شريفهم ووضيعهم، فالجامعة تجمع علوماً عدة وعلماء وطلاباً شتى، ولـذا اخـتار العرب أن يكون الكـيان السياسي الذي يضمهم هو "الجامعة العربية"، ولم يختاروا "الاتحاد" أو "الملتقى" ... إلا أنني لم اقتنع بهذا التفسير؛ أولاً لأن المدرسة هي الأخرى بها علـوم عـدة وطـلاب متباينون، وثانيـاً لأن اللفـظ في العـربية قد يأخذ معـانٍ جديدةً عندما يؤنث، فهناك فارقٌ بين "المصيب" و "المصيبة" و "النازل" و "النازلة"، وثالثاً لأن الجامعة يتخطى دورها مجردَ "الجمع" بين الأشتات، ورابعاً – وهو الأهم – أن الجامعة صارت على يد العرب اسماً مفرغاً من المعنى، فلا هي تجمعهم ولا هي تؤلف بين أشتاتهم، بل إن خلافهم يفسد للود ألف قضية، ففي مارس 1980 أقامت الجامعة العربية في تونس مهرجاناً لمرور 35 عاماً على إنشائها، وألقى نزار قباني رائعته:
أنا  يا صـديقةُ  متعبٌ  بعـروبتي فهل العروبةُ لعنةٌ وعقابُ؟
أمشى على ورق الخريطة خائفاً فعلى الخريطة كلنا أغرابُ
الجميع أغراب بالرغم من أن الجامعة كانت تجمعهم! إذن لا بد من البحث عن تفسير آخر.

ربما كانت اللفظة ترجمة لكلمة  University  التي تعنى "مؤسسة تقدم شهادات عليا في علوم مختلفة"، لكن لماذا استخدم الغـربُ هذا اللفـظ المشـتق من كلمة  Universe  التي تعنى "كـيان جامـع للأشـياء الموجـودة "؟ عـدنا من حيث أتينا، وانتهينا من حيث بدأنا!

ففكرتُ في أن الجامعة لا تجمع العلوم والعلماء فقط بل هي مصبٌ تنتهي إليه شتى ضروب الفكر، ومنبعٌ تتفرعُ منه روافدُ جديدة، فنحن نلتحق بالجامعة بأفكار أحادية الاتجاه

نؤمن بها ولا نلقى بالاً لسواها، لا اتجاهات محددة أو فكرٍ واضح المعالم، ثم ندرك في الجامعة أن الآخرين موجودون، وأن العالم أكبرُ بكثير مما كنا نتخيل، وتمتزج الأفكارُ في عقولنا "وتجتمعُ" الأشـتات أمـامنا، فنتعلمُ كيف نفكـر، وكـيف نختلف دون أن نتخالف، ونبـدأُ في تكـوين اتجـاهات جديـدة، لنخـرجَ إلى المجتمع روافد خصـبة تجـدده وتثـريه وتدفـع حركته إلى الأمام.

كانت المدارس موجودةً في كل العصور، أما الجامعات فارتبط ظهورها بعصور التنوير، فكان ظهور الجامعات في أروبا العصور الوسطى سابقاً لعصر النهضة، وفي شرقنا العربي ارتبط إنشاءُ الجامعاتِ برغبة الحـاكم في الأخذ بأسباب التقدم، وكانت أول إرسالية فكـر فيها محمد على إلى فرنسا لدراسة أساليب القتال الحديثة، و توالت البعثات بعد ذلك ثم عاد المبعوثون وأنشأوا "المهندسخانة" و"دار العلوم" لتظهر بعد ذلك الجامعة الأهلية بجوار جامعة الأزهر الدينية. كذلك كان إنشاءُ الجامعات هدفاً غيرَ قابلٍ للتأجيل في الدول التي استقلت بعد الحرب العالمية الثانية.

إنشاء الجامعات ارتبط بالتقدم؟ هل كان الأمر كذلك في بلادي؟ زادت الجامعات الحكومية، وأجيزت الجامعات الخاصة، وما أدراك ماهية! ولكن خصمت هذه الزيادة من قيمة التعليم الجامعي ومن مردوده، وتحولت مؤخراً الجامعات إلى ساحات قتال، لا علم يهذب السلوك ولا قانون يضبطه، فهنا طلاب يحاولون ضرب رئيس جامعتهم، وهناك طالب يقذف متحدثاً زائراً بالحذاء، واشتباكات بالأسلحة البيضاء ومطالبات برحيل عميد وفصل وكيل وإقصاء أستاذ...صارت الجامعة مقسومة ومكسورة... لم تعد جامعة إلا لكل ما يهدر قيمتها، وصار خريجوها عبئاً على المجتمع وانتقاصاً منه، لم تعد تجمع وتؤلف وتشع.. ومع ذلك مازلنا نسميها جامعة!  حالة فريدة تختص بالشعوب في الفترات الحالكة والأنظمة الهالكة: توجد لديهم الأسماء، لكن لا توجد معانيها .

أستاذ الإعلام-كلية رولينز- فلوريدا
[email protected]