رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

"نهر الحب" السياسي

"تيجي معايا يا هاني؟... نزور.. قبر ماما" ... من يستطيع أن ينسى ذلك المقطع المأثور من حوار فيلم "نهر الحب"؟ حفظ الكثيرون من أبناء الجيل الذي تربي على "القناة الأولى" و"القناة الثانية" وحواديت "أبلة فضيلة" أحداث ومشاهد هذا الفيلم، وغيره من كلاسيكيات السينما المصرية،

عندما كان فيلم السهرة يجمع الأسرة، ولم يكن هناك نت، أو موبايل، أو أجهزة إلكترونية منتشرة بالغرف. شكلت تلك الأفلام وجداننا، وصار حوارها محفوظات نرددها وقفشات نتبادلها.
كبرنا، وتبدل الزمن بنا، لكن ظل لتلك الأفلام سحرها، ولأن الفن الحقيقي لا يعتريه البلى لم يكن عجيباً أن نشاهد الفيلم نفسه مرات، كما نقرأ القصيدة نفسها مرات بنفس الاعجاب، ونطالع اللوحة المبدعة كثيراً بنفس الانبهار، خاصة إذا كنت في الغربة يعاودك الحنين إلى دفء الماضي، وذكريات الصبا، ولغة الوطن. وعندما عاودني ذلك الحنين وجدتني أبحث عن فيلم "نهر الحب" لأشاهده من جديد للمرة العشرين أو ربما أكثر، لا أدري.
الفيلم من إنتاج ١٩٦٠، لكن أحداثه تدور في الأربعينيات، عندما يعجب عضو البرلمان ووزير الحقانية طاهر باشا (زكي رستم) بنوال (فاتن حمامة) شقيقة ممدوح الموظف عنده التي تصغره بأربعين عاماً، فيتقدم للزواج منها، وتوافق نوال إنقاذاً لأخيها الذي كان متورطاً في مخالفات مالية تهدده بالسجن. بقية أحدث الفيلم محفورة في الذاكرة، لكنك في كل مرة لا تستطيع إلا أن تنبهر بأداء زكي رستم الذي كان المطلوب منه أن يجعلنا نكرهه ونعذر نوال عندما تقع في غرام اليوزباشي خالد. أذكر انني كنت أشاهد ذلك الفيلم منذ سنوات، وكانت ابنتي بجواري تستمع إلى زكي رستم وهو يؤنب زوجته لأنها تأخرت ٥ دقائق عن موعد العشاء قائلاً: "الدقيقة بتفرق في حياة الشعوب" فسألتني ابنتي -١١ عاماً آنذاك- "مين الراجل "الإتم" ده يا بابا؟" كان استفسار ابنتي الحانق دليلاً آخر على إتقان زكي رستم لما كان مطلوباً منه.
ولأنني أحفظ الفيلم كانت لدى الفرصة ألا أتوحد مع الأحداث، وأن أظل خارجها ألاحظها وأكون خواطر حولها. لم يكن التوجه وقت إنتاج الفيلم في الزمن الناصري إظهار العصر السابق في صورة محببة، ولذا أشار الفيلم إلى قضية الأسلحة الفاسدة ودورها في الهزيمة في حرب فلسطين، إلا انني وجدت أن الفيلم يقدم شهادة إدانة لعصرنا، وشهادة مديح لعصر راح. تجد ذلك السياسي طاهر باشا ينتقي كلماته، ويفكر كثيراً قبل أن يصدر منه قول أو يقدم على أي فعل، ويمضي الليل في مكتبته العامرة بالكتب، يطالعها ويستخرج مكنوناتها. لا يميل إلى الانفعال أو الصوت العالي، لأن صوته من عقله وليس لسانه. لا يقاطع أحداً أبداً أثناء الحوار مهما كان مختلفاً معه، ناهيك عن أنه يدرك أهمية الوقت ودقة المواعيد. وجدتني أسأل نفسي: كم كتاباً قرأ أي من نواب أو وزراء هذا الزمان؟ لا أظن أن الوقت يسمح، أو أن هناك تفكيراً من الأساس في هذا الأمر. عندما أتابع جلسات مجلس الشعب أرثي على فجاجة الألفاظ، وجلافة الأصوات، وحدة الانفعال. مؤمن أنا أن النقاش عالي الصوت يكون منخفض الفكر. كم سياسياً تذكر من

عهد مبارك كان بهذا الرقي؟ لا أظن أبداً أن طاهر باشا كان يتخيل أن يجلس في البرلمان بجوار نائب التجنيد، أو النائب الصايع، أو نائب المخدرات، أو نائب الدعارة، أو نائب الرشوة، أو أخيراً نائب التجميل ونائب الآذان!
تهكم ممدوح شقيق "نوال" على طاهر باشا السياسي الشيخ ذي الخامسة والستين عاماً، فوجدتني أتعجب من مبارك الثمانيني ورموز نظامه وبقاياه السبعينيين، باعتبار أن طاهر باشا يعد في فريق الأشبال بالنسبة لهم!
يكتشف طاهر باشا أن زوجته على علاقة بضابط صغير في الجيش، لكن هذا الباشا الهائل لا يفكر في التنكيل بالضابط رغم أن أيا من أصحاب النفوذ في العصر المباركي كان سيبحث تلقائياً عن إرسال هذا الضابط إلى ما وراء الشمس، ولو بحثنا وراء الشمس لوجدنا كثيرين أرسلهم نظام مبارك إلى هناك. لكن طاهر باشا يبحث عن فخ قانوني للنقيب خالد. وعندما يرفض الباشا أن يطلق نوال، يهدده شقيق نوال بنشر الفضيحة في صحف المعارضة، فيتراجع الباشا ويتظاهر بالموافقة... صحف المعارضة؟!! معنى ذلك أن الباشا لم يكن يستطيع أن يصادر الصحف المعارضة أو أن يحظر النشر بها. معناه أن صحافة ذلك العهد كانت سيفاً على رقاب المسؤولين. كم صحيفة كانت سيفاً على رقاب حكام ما بعد الثورة؟
كان السياسي فكراً، ثم أصبح عضلاً، كان منضبطاً فأصبح عشوائياً، كان يراقب القانون ويلتزم به، فصار يجاهر ويفاخر بخرق القانون أو التحايل عليه. كان السياسي قارئاً باحثاً، فصار محتاجاً إلى أن يجتاز اختبارات القراءة والكتابة! لقد عشنا عهداً قبيحاً، وحكمتنا أدمغة تافهة، فكان أن وصلنا إلى هذا الحضيض. أعرف أن كثيرين لم يتعاطفوا مع طاهر باشا، وأنهم بكوا من أجل نوال التي حمل الفيلم رمزها "نهر الحب"... فكانت نهراً يعطي لغيره الحياة والحب، رغم أن الموت كامن في أعماقه... أما طاهر باشا السياسي فهو برقبة كثير من أولئك الذين ضلوا طريقهم في عالم البلطجة، فاهتدوا إلى عالم السياسة من أجل أن يضلونا. لا سامحهم الله إذ دمرونا، ولا سامحنا الله إذا أعدناهم.