رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

شعب يُجوع ويُروع.. ثم يتبرع

جدل جديد يثور في مصر حول المعونة الأمريكية، والدعوة التي أطلقها الشيخ محمد حسان لجمع التبرعات وإنشاء هيئة لتلقي أموال الزكاة حتى نستغني عن المعونة ونحفظ لمصر كرامتها واستقلال قرارها. وللحق فإن للشيخ محبين ومريدين كثيرين تحمسوا للدعوة، إلا أن الأمر لم يخل من اعتراض البعض وسخريتهم من تحميل الفقراء عبء التبرع في وطن عامر بالمليونيرات، وطرحوا أن وقف تهريب الأموال واستعادة ما تم تهريبه هو الأجدر والأولى، بل سخر آخرون من الشيخ نفسه وغمزوا في سيارته الفارهة والفيللات التي قيل إنه يمتلكها.

وللحق أيضا فإن فكرة الجهود الذاتية لدعم الدولة كانت موجودة دائماً منذ القدم، ومعظمنا يعرف قصصاً كثيرة من التاريخ الاسلامي، مثل قيام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بتجهيز جيش العسرة كاملاً على نفقته. بل إن المجتمعات الغربية ابتكرت وسائل لتنظيم مساهمات الناس لدعم اقتصاد الدولة، ربما كان أبرزها فكرة "سندات الحرب" التي طبقتها بعض الحكومات في أوروبا وأمريكا أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي سندات تصدرها الحكومات ليشتريها الأفراد لدعم المجهود الحربي، كما أنها وسيلة لامتصاص الفائض لديهم مما يقلل من حدة التضخم أثناء الحرب، وأدت وسائل الإعلام دوراً مهما في الترويج لسندات الحرب أو "سندات الحرية" كما أطلقوا عليها في أمريكا، بل إن "تشارلي تشابلن" أخرج فيلماً على حسابه بعنوان "السند" للترويج للفكرة، واستطاعت الحملة تدبير 21 بليون دولار لتغطية نفقات الحرب (التي وصلت إلى 30 بليون دولار).
كما استخدمت أفكار أخرى لتشجيع الجهود الفردية ، مثل قبول التبرعات العينية، وبيع الحلوى والملابس القديمة وتوجيه العائد لخزانة الدولة، بل بدأت في أمريكا حملة لقبول تبرعات الأفراد من أجل سداد الدين العام الأمريكي الذي يبلغ 13 تريليون دولار (التريليون فيه 12 صفر!)، وتم ابتكار أفكار لتسهيل تبرع الناس، مثل إتاحة التبرع باستخدام كروت الفيزا بجانب الشيكات.
حسناً، إذا كانت الفكرة عالمية، فما المانع من تبنيها محلياً؟ ومن قال إنه لم يتم تبنيها كثيراً من قبل؟ ففكرة المسؤولية الاجتماعية للقادرين كانت موجودة دائماً، وأبرزها فكرة الأوقاف التي يخصص ريعها لصالح الخير، أو التبرع بالمال أو الأرض لصالح المجتمع مثل إنشاء المدارس والجامعات (جامعة القاهرة مثلاً)، ولعلنا ما زلنا نذكر حملات التبرع للمجهود الحربي في الستينيات، وحفلات أم كلثوم حول العالم من أجل ذلك، ومعونة الشتاء، ثم ما عرف باسم "الحملة القومية لسداد ديون مصر" في الثمانينيات والتسعينيات.
إذن الاعتراض ليس على الفكرة، بل على أشياء حولها، فالفكرة عامرة بالروح الوطنية والنوايا الطيبة فعلاً، والرغبة في عمل أي شئ من أجل مصر وكرامتها، إلا أن اعتراضي يتلخص في التالي:
1. الفكرة مشحونة بالحماس الذي يحجب الرؤية الكاملة للأمور، لأن التبرعات تصب في مسار مختلف عن المعونة الأمريكية، ومن ثم لا يمكن أن تصبح بديلاً حقيقياً لها. الجزء الأكبر من المعونة يخصص لأغراض عسكرية، ومصر معتمدة في التسليح وقطع الغيار والذخيرة على الشركات الكبرى لتصنيع السلاح في أمريكا (مثل مارتن لوكهيد)، وهذا التعاون "الاجباري" مرتبط بالمعونة، وقطعه سيضعنا في ورطة تسليحية كبرى بغض النظر عنا الوفرة النقدية التي يمكن أن تقدمها التبرعات.
2. التبرعات أمر يحل مشكلا طارئا، ولكن لا يمكن أن تشكل أساساً للاقتصاد، فهي لا تمثل قيمة مضافة، بل مجرد تحريك للمال من هنا إلى هناك داخل الاقتصاد بلا إضافة أو نمو، على عكس المعونة التي تشكل إضافة نتفق أو تختلف عليها، لكن يجب تسمية الأشياء بشكل صحيح حتى نفهم بشكل سليم، خاصة إذا علمنا أن موارد مصر من النقد الأجنبي انخفضت بشكل يهدد بتعويم الجنيه مرة ثانية، مع ما في ذلك من ارتفاع رهيب في الأسعار.
3. يخطئ من يربط بين المعونة الأمريكية ومعاهدة

السلام، ففكرة تقديم المعونات تمثل إستراتيجية ثابتة للولايات المتحدة للتمدد الخارجي منذ عشرينيات القرن الماضي، فالمال يشتري النفوذ ويحقق المصالح، ولذا قدمت أمريكا معونة للدول الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية قيمتها 13 بليون دولار (فيما عرف باسم مشروع مارشال) من أجل منع إنتشار الشيوعية في أوروبا، أما بالنسبة لمصر فقد بدأت المعونة بشكل محدود منذ عام 1951 (في شكل تقديم ائتمانات للتيسير على المستوردين المصريين، كما قدمت حكومة "أيزنهاور" 10 مليون دولار دعما لنظام الضباط الأحرار ومنعاً لوصول النفوذ السوفييتي، ويورد الكاتب "يوفال ليفين" أن أمريكا عادت بعد حرب 1956 إلى تقديم معونات لمصر حتى قام ناصر برفضها تماماً في 1967 ولم تعد المعونة الأمريكية لمصر إلا عام 1974. ومن ثم فإن ربط النزعة الوطنية والعداء لإسرائيل من أجل ترويج فكرة التبرعات فيه تبسيط وقفز على حقائق الماضي.
4. أسلوب طرح الفكرة جزء من فسيسفاء الفوضى في مصر، حيث كثر القادة وغابت القيادة، وأصبح الإعلام هو الذي يقود وأحياناً ينفذ، والحكومة تثني على ذلك أو تستحسنه فقط، وهو ما يفقدنا أهم ما نحتاجه الآن: حكومة مستقرة وقوية وقادرة على رسم وتنفيذ السياسات، أما مثل هذه المبادرات حسنة القصد فإنها تزيد في عزلة الحكومة وتدعم تجاهل الناس لها، ليستمر الهدم من حيث أردنا البناء.
5. الفكرة تعيد المسؤلية إلى الشعب الذي انفجر منها، فالحكومات السابقة ألقت على الناس أعباء التعليم، والعلاج، وإيجاد الوظائف (حتى لو غرقوا في البحر بحثاً عنها)، والناس ترى القلة تحتكر المال والنفوذ، ثم يطلب منهم أن يساهموا لدعم اقتصاد مصر! من المحتمل أن تكون الفكرة صائبة، لكن الأكيد أن توقيتها محض خطأ. (معلومة على الهامش: تم إلغاء الضرائب عن كاهل الشعب الفرنسي عندما قامت الثورة، ثم أعيدت بعد ذلك بسنوات).
6. لقد جربنا هذه المسكنات من قبل ولم تؤد إلى شيئ كثير، وليس من الذكاء أبداً أن نستمر في محاولة حل المشكلة بنفس الأسلوب ونستمر في توقع نتائج. ده كلام؟!!!!
معلومة أخرى من الثورة الفرنسية: لم يبدأ التحسن الأقتصادي في فرنسا الثورة إلا بعد مرور أكثر من عشر سنوات عندما بدءوا في إنشاء صناعات حربية ليحصل الناس على وظائف، ويحدث إنتاج ثم تصدير. المعنى أن اقتصاد المعونات قد يوفر لك العشاء، لكنه لا يأتي بالغطاء والكساء. إنه يبقي اليد مدودة والأعين مغمضة، ولا أظن أن أحداً يريد ذلك، لا الآن، ولا في أي وقت قادم.
[email protected]