رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أجور المذيعين

بداية أرجو ألا أكون "دقة قديمة" أو مغرداً خارج السرب عندما استخدم كلمة "مذيع" بدلاً من "إعلامي" كما هو شائع، ولا أدرى ما الذي أشاعه! ما علينا؛ فقد تحولت الدخول الدسمة التي يحصل عليها نجوم الفضائيات إلى باب للهجوم عليهم واتهامهم بالنفاق، أو اتخاذ الثورة "سبوبة"

لحصد الملايين في وقت تستبد فيه الأزمة الأقتصادية بشعب فقير ومريض، وطالعت كثيراً من الكتابات التي تتهم هؤلاء بركوب الثورة وممارسة الجهاد "اللذيذ" وتقاضي آلاف الجنيهات يومياً مقابل بضع ساعات من الرغي وافتعال التشنج الثوري لجذب جمهور أكبر وإعلانات أكثر تدفئ جيوب المذيعين واصحاب القنوات..
ربما كان وزير الإعلام السابق "أنس الفقي" سباقاً في استخدام تلك الدخول متناهية الارتفاع للطعن في مصداقية أحد المذيعين وقلب الرأي العام ضده أثناء الثورة، ليكتشف الناس على الهواء أن مذيعهم "نصير الغلابة" يتقاضى 11 مليون جنيه سنوياً، ومؤخراً كشفت قناة "التحرير" أن المذيعة "دينا عبد الرحمن" تتقاضى 275 ألف جنيه شهرياً، ليبدأ البعض في التساؤل: يعني كام في اليوم؟ طيب ولو بتشتغل 4 ساعات في اليوم، تقف الساعة بكام؟
في اعتقادي أن الأمر أكبر من مجرد "حقد طبقي" أو تحسر على العدالة الاجتماعية التي كانت من شعارات الثورة، فمن المعروف أن كثيراً من هؤلاء النجوم الفضائيين أخذوا جانب الأهالي ضد الحكومة، والثورة ضد النظام، ومن ثم فإن الطعن في نزاهتهم ومصداقيتهم سوف ينسحب بالضرورة على الثورة، مع ما في ذلك من تدعيم لدعاوى التكسب، والعمالة، والأكل على كل الموائد التي طالت كثيراً من الناشطين وجمعياتهم، وطبقاً لهذا المنطق يبقى "لا فيه ثورة ولا يحزنون" والحكاية كلها "شوية أصحاب مصالح خلصوا من أصحاب المصالح اللي كانوا موجودين، وربنا يعز الثورة التي فتحت باب العز أخيرا على من ركبوها في الطريق إلى البنك!" وبالتالي ينتقل التشكيك في هؤلاء المذيعين إلى التشكيك في الثورة نفسها أو على الأقل السخرية منها ومن أولئك البسطاء الذين صدقوا وجعلوا من أجسادهم معبراً يوصل نجوم الثورة والفضائيات إلى واحة الثراء والوفرة.
أما المدافعون فيرون أن المسألة عرض وطلب، وأن هؤلاء المذيعين يجتذبون الجمهور والمعلنين، ومن ثم يحصلون على نسبة مستحقة بدلاً من أن يذهب الدخل كله إلى صاحب القناة الذي هو في الأصل من أصحاب الملايين الكثيرة، وبالتالي المسألة لا علاقة لها بالنفاق أو التكسب، فهذا هو مستوى الأجور من قبل الثورة، وبالتالي فإن مواقف هؤلاء النجوم إما نابعة من منطلق وطني، أو مهني، وليس من منطلق المصلحة أو تعظيم الشيكات التي يحصلونها.
في سياق الدفاع عن ارتفاع دخول هؤلاء النجوم يطرحون أن هذا هو مستوى الأجور في معظم أنحاء العالم، بل إن أجور نجوم المذيعين في أمريكا تجعل من نجومنا "غلابة،" فلك أن تعرف مثلاً أن مذيع "سي.إن.إن" الشهير "أندرسن كوبر" يتقاضى ما يعادل 30 مليون جنيه سنوياً، وتحصل "كيتي كوريك" على 15 مليون دولار (90 مليون جنيه) سنويا نظير تقديم نشرة المساء على شبكة سي.ب.إس. الأكثر إثارة "للحقد" ما يحصل عليه "سايمون كوويل" مقدم برنامج المواهب "أمريكان آيدول" أو "نجم أمريكا الأمثل،" إذ يصل أجره إلى حوالي 270 مليون جنيه سنوياً (يعني الثانية تقف بكام؟)، وبالتالي لا يجب أن نتعجب أو نتشكك من أجور نجومنا أو نطعن في مصداقيتهم بسبب ما يتقاضونه.
وبغض النظر عن الهجوم والدفاع، فإن الظاهرة في حد ذاتها تعبر عن أكثر من أزمة: أزمة في الأداء، وفي النقد، وفي المجتمع.
فالبرامج الحوارية التي يطلق عليها "توك شوز" تقوم في الأساس على الأخبار، سواء بإعداد التقارير أو إجراء الحوارات، أي انها برامج إخبارية، ومع ذلك لا تتبع المعايير الصحفية الخاصة بالموضوعية والحياد، ومن ثم يستطيع المشاهد أن يصنف مقدمي هذه البرامج، لأنهم تحولوا من صحفيين إلى أصحاب رأي، وأحياناً قادة رأي، وربما أدرك بعض هؤلاء النجوم أن هذا ليس وقت الحياد، بل هو وقت الانحياز للرأي العام، ولذا لا يبذلون جهداً

في إخفاء مشاعرهم، بل يعمدون أحيانا إلى تقمص مشاعر الجمهور، فيترتدون تكشيرة صارخة في وجه من يعتبرون أعداء للثورة، ويتحول الحوار معهم إلى إستجواب، بينما تعلو وجوههم السماحة، وأصواتهم الرقة وهم يحاورون ويباسطون المنتمين للثورة، ومن ثم وضعوا أنفسهم هدفاً لمن يحمل على الثورة، وصار الطعن فيهم وسيلة من وسائل تسفيه الثورة والتشكيك فيها والتنفير من نتائجها. انها أزمة الأداء الذي يغلب النجومية على المهنية.
كما أن هناك أزمة في النقد، فارتفاع الأجر ليس معناه انهيار القيم، والنقد أولى به أن يوجه إلى القول لا إلى القائل، خاصة أن القائل (مقدم البرنامج) لم يثبت عليه نفاق أو إستغلال للموقف على حساب المبدأ، ولذا فإنه يجب أن يحاسب على دقة معلوماته، وحداثة أخباره، وصدق مصادره، وحفاظه على أخلاقيات المهنة، أما أن نسفه من عمله بسبب دخله فهذا خلط للأوراق لا علاقة له بالنقد الإعلامي الرصين.
نأتي للأزمة الثالثة، وهي أزمة المجتمع، فالأصل في مجتمعنا هو الإخفاء والغموض، مما يفتح الباب دائماً للشبهة، فلا شيء معلن: لا الأجور، ولا الأعمار، ولا الميزانيات، ولا الأخطاء، لتصبح المعلومات عورة في مجتمعنا، أو هي ذلة أعلمها عنك وأحتفظ بها لاستخدمها في الوقت المناسب. لم يكن يستطيع أنس الفقي أن يفكر في تحطيم مصداقية محمود سعد بإعلان الملايين التي قيل إن سعد يتقاضاها لو أن ذلك كان معلناً وليس عورة مخفية، والمجتمعات التي تحجب فيها المعلومات هي مجتمعات عمياء تظن أن المخفي مصيبة والمعلن فضيحة. نحن نتحدث كثيراً، ولكننا لا نقول شيئاً!
أما ارتفاع الأجور المبالغ فيه فليس بالأمر المحمود في مجتمع فقير يعاني من البطالة، بل إن ذلك يعد من أسباب اشتعال الثورة، حيث يقدر الاقتصاديون أنه إذا تجاوز أعلى دخل في مجتمع ما أربعين ضعف أدنى دخل فيه فإن هذا المجتمع مرشح بقوة للصراع الطبقي والانفجار، خاصة إذا كان المجتمع يعاني من انهيار الخدمات، وغياب الرعاية الاجتماعية، وتفشي الأمراض، وضعف البنية التحتية، وغيبة القانون. تحتل مصر المرتبة التسعين عالمياً من حيث تفاوت الدخول فيها، وهي في مرتبة أفضل من تونس التي تأتي في المرتبة 62 (تونس سبقتنا في الثورة)، والسماح بترك المشكلة تنمو غالباً ما يحولها إلى كارثة، وقد كان.
ستقول لي: وما الحل؟ سأقول لك إن أميركا أسوأ من مصر في تفاوت الدخول (أمريكا في المرتبة 42)، ولكن الفارق أن أمريكا توجد فيها دولة؛ تفرض الضرائب، وتقدم كفالة اجتماعية، وإعانات للبطالة، وتعليماً حقيقياً وإلزامياً ومجانياً حتى نهاية المرحلة الثانوية. من الآخر الحل هو أن توجد لدينا دولة، وهو حل لم نجربه منذ سنوات بعيدة!
[email protected]