رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حتى نفهم المجلس العسكري

عشنا ما يقرب من ثلاثين عاماً مع بداية تقليدية شبه ثابتة لنشرات الأخبار مطلعها "الرئيس حسني مبارك..." ولا أذكر أن جاءت الصفحة الأولى في أي جريدة حكومية خالية من صورة للرئيس. لم نكن نسمع شيئاً عن المجلس العسكري،

ولم نكن نعرف شيئاً يذكر عن أعضائه، إلى أن صحونا ذات يوم على بيان صادر من المجلس العسكري بعد 25 يناير يقول إن المجلس في حالة انعقاد دائم، وأظهر شريط الفيديو المصاحب للخبر أن مبارك ليس في الاجتماع، وفي 11 فبراير أصبح المجلس العسكري هو القابض على السلطة في مصر، ليتحول إلى أهم رقم في الحياة السياسية، ويحتل مكان مبارك في صدر النشرات والصحف، ويصبح محور الحديث هجوماً أو دفاعاً أو سرداً للوقائع، نعم؛ نتحدث كثيراً عنه، لكننا لم نبذل جهداً كبيراً في محاولة فهم دوافعه وعقيدته السياسية، ونفكر فيه، لكننا لا نحاول أن نفكر مثله. باختصار نحن نحتاج إلى أن نفهم المجلس العسكري.
التحق أعضاء المجلس بكلياتهم العسكرية في نهاية الخمسنيات وخلال الستينيات من القرن العشرين، أي إنهم الآن حول الستين من العمر، عدا المشير طنطاوي الذي تجاوز 76 عاماً، فهم تجاوزوا مرحلة الشباب بزمن، ودخلوا في مرحلة عمرية تميل الى الاستقرار، وعدم المخاطرة، والحفاظ على المركز المرموق أطول فترة ممكنة، كما أن طول فترة الخدمة العسكرية والتدرج في المناصب قد رسخ مبدأ طاعة الأوامر واحترام تسلسل القيادة. من ناحية أخرى كان أعضاء المجلس قد وصلوا إلى بر الأمان مادياً واجتماعياً، فالحالة ميسورة جداً، والنفوذ والحصانة والسلطة في أوجها، وليس هناك أبدع من ذلك، ومن ثم ليس هناك ما يدعونا إلى إن نعتقد أن أياً من أعضاء المجلس العسكري كان ناقماً على الوضع أو راغباً في تغييره، أو بعبارة أخرى، كان أعضاء المجلس العسكري أبعد مايكونون عن التفكير الثوري، أو حتى راغبين في أي تغيير من أساسه.
ربما كانت النقمة الوحيدة بين أعضاء المجلس -أو حتى في داخل الجيش- تتعلق بفكرة التوريث، فقد أضفت ثورة يوليو ارتباطاً شرطياً بين السلطة والجيش، ومن ثم كان من الصعب تصور قبول الجيش أن يورث مبارك الحكم لولده، لكن فكرة الانقلاب على مبارك لم تكن قائمة، أو على الأقل لا توجد أدلة على أن الفكرة كانت مطروحة بين القيادة العسكرية، خاصة في ظل نشاط المخابرات الحربية وتغلغلها داخل الجيش.
هذه الحالة من الرغبة في الحفاظ على الوضع القائم، والنفور من فكرة التوريث تشرح بعضاً من توجه المجلس العسكري تجاه الثورة، فهم مع الثورة في الإطاحة بمبارك، لكنهم بالتأكيد ضد فكرة إحداث تغيير حقيقي يهدد مراكزهم، ونفوذهم، ومكتسباتهم. ولذا أنا لا أميل كثيراً إلى فكرة أن المجلس العسكري قد أخذ صف الثورة، بل ربما أن المجلس قد أخذ من الثورة ما أراد، ولكنه لا يريد أن تأخذ الثورة ما تريد.
لكن لا يجب أن تتصور أن مكتسبات القادة العسكريين تنحصر في الفلوس والنفوذ فقط، الأمر أكبر من ذلك بكثير؛ فقد حولت ثورة يوليو الجيش إلى مؤسسة ظلت تنمو حتى صارت أشبه ما تكون بالدولة داخل الدولة، ففي مقال ل"إدوارد فيبرو" في البرافدا الروسية (النسخة الإنجليزية) تفصيل للكيان الاقتصادي للجيش المصري، ويقدر الكاتب أن الجيش يهيمن على ربع الاقتصاد المصري، كما أن الجيش هو أكبر مالك للعقارات في العاصمة، ويعمل في قطاعات عديدة تستحوذ على حوالي 30% من حجم العمالة في مصر. أما المصادر التي استند إليها الكاتب فكانت تسريبات من ويكليكس ومقابلات مع دبلوماسيين غربيين. ايا ما كانت دقة البيانات، فنحن أمام مجلس عسكري يتحكم في خيوط اقتصادية كثيرة، فلما أضاف النفوذ السياسي أصبح الأمر أصعب من أن يترك، وأكثر إغراء بالتشبث والإبقاء. ولذا يشير "مجدي حسين" في مقاله هذا الأسبوع بجريدة الشعب إلى "عدم جواز المقارنة بين دور الجيش في كل من ثورة مصر وثورة تونس، فالجيش في تونس مؤسسة محدودة لا تتعدى 18 ألف فرداً، وتم تحجيمها تماماً في عهد بن على"، أما الجيش المصري فهو مؤسسة كبري، ولذا لا يجب أن نتوقع أن المجلس

العسكري سوف يستسيغ فكرة العودة إلى الثكنات، هذا إذا اقتنعنا أنهم كانوا قبل الثورة محدودين بالثكنات.
والطبيعة العسكرية على النقيض من الروح الديمقراطية التي هي إحدى مطالب الثورة، فالديمقراطية قرينة الشفافية، والشفافية لا وجود لها في العسكرية، حيث السرية هي الأصل، ولذا ظل الجيش أقوى التابوهات (المحرمات) الثلاثة في الإعلام المصري (بجانب مؤسسة الرئاسة والقضاء)، حيث درجت الصحافة على عدم التعرض لأي من هذه التابوهات، ومع الوقت بدأت مؤسسة الرئاسة، ثم القضاء في فقد هذه المكانة، في حين حافظ عليها الجيش. كنت تقرأ في صفحة الحوادث "القبض على نجل موظف كبير" وتستغرب: يعني إيه موظف كبير؟ هل فهمت الآن؟ وعندما يواجه أعضاء المجلس العسكري أو معاونوهم الإعلام تجدهم محافظين على نفس فكرة السرية، لدرجة أن أحد اللواءات رفض تحديد حجم الخسائر والإصابات في صفوف الجيش باعتبار أن ذلك سر عسكري، وأن المجلس لا يتاجر بخسائره، ولكن أحداً لم يشرح للمجلس أن ذلك يعني أن المجلس يحجب الحقائق بما يضر بمصداقيته في وقت هو أحوج ما يكون إلى كسب المعركة الإعلامية (حجم خسائر الجيش الأمريكي في الحروب الست التي خاضها في القرن العشرين معلنة بمنتهى الدقة في كل مكان).
في مقال للخبير الإستراتيجي "نورفل آتكاين" (خبير بجد) عن العسكرية العربية يحلل أسباب هزيمة الجيوش العربية في كثير من الحروب المعاصرة تجده يشير إلى خلل في تدفق المعلومات داخل الجيوش العربية، ويحكي من خلال مشاهدات له أن هناك نوعاً من احتكار المعلومات لدى القيادة، لشيوع التصور بأن احتكار المعلومات من أسباب الحصول على التميز وحرمان الآخرين منه. الشاهد من ملاحظات "آتكاين" أن الديمقراطية التي تعتمد على تدفق المعلومات لن تجد غايتها لدى ثقافة تقوم على تحجيم هذا التدفق.
أما صاحب نظرية "صدام الحضارات" ساميويل هنتنجتون" فيحدد في كتابه "الجندي والدولة" مفتاح الشخصية العسكرية، وهو "إدارة العنف" بمعنى أن الجندية مهنة تقوم على التعامل مع القوة، وأهم مهاراتها هي التحكم في تلك القوة وتوجيه العنف. ولذا كان اللواء عمارة يشدد على أن القوات المسلحة تمارس أقسى أنواع ضبط النفس، وأن ذلك ليس عن ضعف، فكأن هناك إحساساً لاشعورياً بالرغبة في نفي الضعف (مع أن ذلك لم يطرح) والتأكيد على القوة.
هذا التعارض في المصالح، والاتجاهات، والتكوين النفسي، والعمري بين المجلس العسكري والثوار يفسر لنا هذا الفراق التدريجي الذي تم بين الاثنين، إلى أن وصل الفراق إلى صدام أسال دماء، وهتك أعراضاً، وتحول جو الثقة والتفاؤل الذي ساد البلاد مع تنحي مبارك إلى احتقان دام، وتشاؤم مما هو آت. إن سألتني: ما الحل؟ سأقول لك: إن بداية الحل هي الفهم، وهأنذا قد أخذتك معي إلى البداية، كمل إنت بقى!