رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

إعلام "دراع مرسي"

كان أستاذ الصحافة المرموق "ديفيد ويفر" بجامعة إنديانا الأمريكية يعرض نتائج بحث عن قيم وأولويات الصحفيين من مختلف الثقافات، وتوقف عند نتيجة ذات مغزى عن الصحفيين العرب، فقد اختلفوا عن الصحفيين من ثقافات أخرى في إعطاء حرية الرأي والتعبير الأهمية الأولى

في عمل الصحفي، وليس دقة الخبر وحق الوصول للمعلومات كما أجاب الآخرون، مما يعني أن الرأي أهم من المعلومات لدى أغلب صحافيينا، في حين أن دور الصحافة الأول هو الإخبار المهني الذي مايتيح تكوين الآراء بشكل مسؤول ومستنير، أي آراء مرتكزة على أساس ونابعة من الأرض، ولذا يتندر الغربيون على أصحاب الآراء النابعة من السماء (كأنها وحي) بوصف حال أحدهم كأنه يقول: لا تخبرني بأية حقائق؛ فقد حسمت رأيي وانتهى الأمر!

ولذلك كنت استغرب كثيراً من بعض الكتاب والصحفيين أثناء أزمة كلية الإعلام في دفاعهم عن الطلاب باعتبارهم ينتمون إلى "كلية رأي" ومن ثم فهم أولى الناس بالتعبير عن الرأي! في الحقيقة أجد وصف كلية الإعلام "بكلية الرأي" مختلفاً عما استقر في تكويني من خلال سنوات كثيرة أمضيتها بالكلية طالباً ثم أستاذاً، ولكن الشك بدأ يتسرب إلى، وبدأت أتهم نفسي لما لاحظت هذا الإلحاح على الربط بين الإعلام والرأي، فمن الجائز أن الدنيا تغيرت، وتغير معها الإعلام، فعدت إلى أحدث الإصدارات والدراسات عن سمات الصحافة وعقيدة الصحفي، فوجدت أن الدنيا كما هي: الالتزام الأول للصحفي يكون تجاه الحقيقة، وولاؤه الأول للناس، ويكمن جوهر الصحافة في التحري والتدقيق، ويجب أن يحتفظ ممارسو المهنة باستقلالهم عن مصادر أخبارهم (عندما أغطي أخبار شخص ما يجب ألا أتأثر بمعرفتي له)، ويجب أن توفر الصحافة مساحة للتعبير المتوازن عن الجميع... إلى آخر ذلك من أساسيات لا أجد من بينها مسألة الاحتفاء بالرأي والتعبير عنه.

ولكني عندما أتابع ما يدور الآن أدرك أن الدنيا فعلاً تغيرت (يقيناً ليس للأفضل)، وأن هناك أزمة في الإعلام، وأزمات بسبب هذا الإعلام. دعني أفصل لك ما أجملته تواً:

لم تتح تكنولوجيا الإنتاج التليفزيوني في البداية كثيراً من حرية الحركة والبث الحي، فكان الاعتماد الأكبر على المذيع الذي يطلق عليه الأمريكان Anchor، أي المرساة التي تربط القارب وترسيه، وكان الاعتماد الأكبر على المواد المسجلة، مما كان يتيح وقتاً أكبر للتنقيب والتدقيق، وكان المذيع "المرساة" هو النجم، ولكن ظهوره كان قليلاً ومتقطعاً (المرساة تكون مغمورة) ويقرأ غالباً من ورقة أو شاشة عرض، فلم يكن هناك مجال للرتجال (أو الإفتاء أحياناً)، ثم تطورت تكنولوجيا البث الحي، فصارت التغطية فورية من الميدان، لتنتقل النجومية من "المرساة" إلى المراسل (الذي يجري اللقاءت وظهره للكاميرا-- فاكر مفيد فوزي في حديث المدينة؟)، فصارت أسماء المراسلين معروفة، وطريقة بعضهم محلاً للتندر والتقليد (من مؤشرات الشهرة). ثم أتى عصر البث على مدار الساعة، واشتدت المنافسة، وأصبح التميز وسط الزحام أمراً جد صعب، فكان الحل في شكل برامجي يغطي ساعات من البث، ويقدم توليفة من الموضوعات، والضيوف، والمكالمات، وأحياناً الصراعات التي تجذب وترفه بأكثر مما تعلم، فكانت البرامج الحوارية التي عادت بها النجومية للمذيع الذي تغير أسمه من "المرساة" إلى "المضيف"  Hostالذي يواجه الكاميرا، ويرتجل معظم الوقت، ويفض الشجار بين الضيوف، وأحياناً يأمرهم، أو حتى يطردهم، وأحياناً يتحدث بأسلوب جمعي كأنه أغلب الناس (مش هنرحل يا فضيلة المرشد)، أو يخاطب المسؤلين من عل. وامتد هذا الأسلوب إلى الكتابات الصحفية أيضاً، ولذا لم يكن مستغرباً أن يتحول صحفيون وكتاب أعمدة إلى مضيفين ونجوم شاشات.

وما علاقة هذه التغيرات بأزمة الإعلام؟ ببساطة تحول الإعلام إلى منابر للرأي، والهجوم، أو الدفاع، أو التقييم، ومع

هذه الموجة فقدت الصحافة مقوماتها الأساسية، خاصة مبدأ استقلال الصحفي عمن يكتب عنهم، فكان التركيز على الفاعل وليس الفعل، ليتحول الناس في الإعلام إما إلى ملائكة أو شياطين. سمعت مذيعة تسأل مصدرها: "هل تعتقد أن هؤلاء الأبطال يمكن أن يكونوا قد خالفوا القانون؟" هل يستطيع أحد أن يجيب عن هذا السؤال بشيء سوى "لا"؟ الثوار إما ملائكة أو شياطين، وكذلك الداخلية، وطبعاً المجلس العسكري! وتلك خطيئة كبرى في الإعلام، تجعل الحقيقة غائبة، وتجعل الناس يفكرون بآذانهم. فتقرأ خبراً عن "استسلام قوات الجيش للمتظاهرين لأن الجنود رفعوا أيديهم مطالبين المتظاهرين بالتوقف عن إلقاء الحجارة." ونفس الخبر يأتي في صيغة التعامل السلمي للجيش مع المتظاهرين (يعني استسلام أم تهدئة وسلام؟)، وهكذا صار الإعلام رأياً يغازل انتماءات ومعتقدات الجمهور، لا يهم الدقة والمعنى، ولكن المهم مراعاة ميول وتحيزات الجمهور، وطالما قال دراع مرسي يبقى بيتكلم صح!

لا يجب أن تكون هناك أبقار مقدسة للصحفي، فالهم الأول هو الحقيقة، ويجب التأكد من الحدث من خلال مصدرين مستقلين على الأقل، وساعتها يكون خبراً أو إعلاماً، بغض النظر عن التقديس أو التأثيم الذي يسبغه الرأي العام على الفاعل.

المأساة الأكبر أن تكنولوجيا الإنترنت أتاحت لأي مستخدم أن يضيف المضمون الخاص به، وأن يعيد إنتاج المواد التليفزيونية الفجة أو المثيرة مجاناً، لتنتشر وتشتهر بغض النظر عن فجاجتها وسخافة من انتجها. أما البث الحى المستمر فقد أدى إلى إنحسار دور المراسل والاعتماد على المكالمات الحية مع الجمهور في مكان الحدث، وهم غير مدربين على نقل ما يحدث بمهنية، لتبتعد المكالمة عن تقرير ما يحدث إلى تقييمه (مزيد من التوجيه والإرشاد، وليس الإعلام).

أستاذ الصحافة "ديفيد ويفر" الذي حدثتك عنه في البداية يرفض أن يدلي برأيه في الأحداث الجارية، أو أن يقيم ساسة أو سياسات، لأنه يريد أن يحتفظ بمصداقيته وحياديته في نظر القارئ، ولأن الواقعة مقدسة بالنسبة للصحفي، أما الرأي فهو حر بالنسبة للقارئ، وعندما يكون الجمهور مستنيراً، سيكون الرأي العام مستنيراً، والاختيار في صالح المجتمع في النهاية، أما السعي لنفاق الرأي العام، والصراخ المستمر، والارتجال المسف فلن ينتج إلا غوغاء تشمل المجتمع، وتجذبه للخلف، وتلهيه بصراع لانهائي الخاسر الأكبر فيه هو الشعب نفسه.

يقولون إن الإعلام مثل الجو؛ يكثر الحديث عنه عندما يكون سيئاً... هل أدركت لماذا يكثر الحديث الآن عن الإعلام ؟

*استاذ الإعلام  بالولايات المتحدة