عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الدين في السياسة الأمريكية -1-

"مرحباً بك في الجحيم يا بن لادن"... عندما قرأت هذا التصريح ل"مايك هاكابي" الذي حاول الترشح للرئاسة في أمريكا عام 2008 تساءلت: كيف أتى السيد "هاكابي" بهذا اليقين؟ فمن غير المعقول أن تكون لديه قوائم الوصول ليرحب بابن لادن في الجحيم في تصريح احتفت به وسائل الإعلام هنا!

إلا أن قراءة متأنية لبعض ردود الأفعال والتعليقات التي أطلقت على مقتل بن لادن في الثاني من مايو الماضي يمكن أن تصل بنا إلى فهم أدق لتداخل الدين مع السياسة في الولايات المتحدة، فبمجرد سريان الخبر وقبل أن يؤكده أوباما بنفسه بدأ كثيرون في التجمع والهتاف حاول حديقة البيت الأبيض: "أو بي إل، جو تو هل،" أو اذهب إلى الجحيم يا أسامة بن لادن. هذا الدعاء بالجحيم على ابن لادن لم يكن مجرد شعار منغم ردده المحتفون بمقتله، ولكنه كان تعبيراً عن استخدام الرمز الديني في التفاعل مع حدث سياسي، حتى وإن كان بعض من رددوا هذا الشعار لا يؤمنون بالدين من الأساس.
  هذه الاحتفالات التي أظهرها جانب من المجتمع الأمريكي في أعقاب مقتل بن لادن في عملية مفاجئة وغامضة أثارت امتعاض البعض، ناهيك عن إدانة البعض الآخر مثل الفنزوليين مثلاً، خاصة أن هذه السعادة بالمقتلة أخذت في جانب منها غطاء دينياً، فبعد أن علم "فيليب وارن" راعي إحدى الكنائس في كاليفورنيا بالخبر كتب على "تويتر" اقتباساً من "كتاب الأمثال" يقول: "عندما يقام العدل فإنه يجلب السعادة للأتقياء، والرعب للأشرار." وأتت الانتقادات من الشركاء الأوروبيين من الجانب الشرقي للأطلسي، فصرح أسقف كنيسة كانتربري أن "مصرع رجل غير مسلح على أيدي 79 كوماندوز أمر يشعر بعدم الارتياح،"
  وبدا أن الصبغة الدينية للاحتفال بمقتل بن لادن تتناقض مع التعاليم المسيحية السمحة التي تدعو إلى محبة الأعداء، وإدارة الخد الأيسر لمن يصفع الأيمن، ناهيك عن الوصية السادسة في الوصايا العشر التي تنهى عن القتل، ليتطور الأمر من مجرد عواطف ورموز دينية في التعبير عن السعادة بالتخلص من بن لادن، إلى معضلة لاهوتية تستدعي تفسيرات و"فتاوى" للخروج من هذا التناقض البادي. ليبدأ البحث في الإنجيل عن مبرر للقتل.
فهل هناك تعارض "شرعي" بين قتل بن لادن والوصايا العشر؟ ناقشت "مولي ورثن" هذه المسألة في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" واستنتجت أن القتل العمد "جائز أحيانا" إلا أن أحد القراء الذين علقوا على المقال كان أكثر اجتهاداً، وأشار بأن هناك خطأ في الترجمة عن الأصل العبري، لأن النهي كان عن "الاغتيال" وليس "القتل."
  إلا أن هذه الترجمة المقترحة للوصية المقدسة تحمل مشكلة قانونية للولايات المتحدة، فبافتراض أن العملية كانت اغتيالاً وليس قتلاً، فهل يحق للولايات المتحدة أن تنفذ عمليات اغتيال في دول ذات سيادة وبدون حتى أن تخطرها؟ وما يعقد المسألة أكثر أن الرئيس الأمريكي "فورد" كان قد أصدر أمراً تنفيذيا يقول بأنه "لا يجوز لموظف في الحكومة الأمريكية أن يتآمر أو يشترك في أي اغتيالات سياسية." إلا أن بوش الابن كان قد تنبه لهذه الورطة القانونية، فأفتى بأن ابن لادن وغيره من الإرهابيين لا ينطبق عليهم هذا القرار، وزاد عليه "ماكين" فيما بعد بأن أضاف القذافي إلى قائمة المسموح باغتيالهم.
  من جانبهم اجتهد الإنجيليون في إظهار أن قتل ابن لادن لا يتعارض مع الكتاب المقدس، بل على العكس يتسق مع قانون الرب، فالمتشددون من الإنجيليين الأمريكان وجدوا قتل ابن لادن مبرراً من منظور "اللعنة الأبدية" فأفتوا بأن

النفوس لا تتساوى، وأن نفس المذنب والقاتل الجماعي لا تستحق الحماية، ولذا فإن أوباما كان محقا عندما عقب على قتل بن لادن قائلاً: "لقد تحقق العدل." أما إظهار السعادة بالموت فهو -وإن بدا صادماً للبعض- إلا أنه مصداق للكتاب المقدس -من وجهة نظرهم- لأن "المدينة تفرح عندما ينصلح حال الأتقياء ويفضي الأشرار إلي الفناء."
  لكن وجهة نظر الإنجيليين وجدت من يفندها اعتماداً على الكتاب المقدس أيضاً، فاحتج الكاتب "لي برادي" على أن يبتهج المسيحيون لمقتل من أجرم في حقهم، واستند على ما ورد في سفر حزقيال   18: 23 إذ يتساءل الرب: هل يسعدني أن يموت شرير؟ فيجيب الرب (32): لما كنت لا أسعد بموت أي أحد، فتوبوا واحيوا."
  هذه الفتاوى، والمناظرات، والاجتهادات تخبرك بأن الدين ليس غائباً عن المشهد السياسي في الولايات المتحدة، بل يتداخل الدين في تبرير أو تفنيد الفعل السياسي، وفي توصيف أعداء الدولة، وتحديد العقاب الذي يجب أن ينزل بهم، فقد اقتحم مجهولون محطة بنزين في كاليفورنيا وأوسعوا صاحبها العربي ضربا وهم يهتفون به: أيها الجهادي! وهكذا يستدعى الدين في تحديد العدو، وتبرير كيفية التعامل معه.
  وبالرغم من أن صناع القرار كانوا أكثر حرصا في عدم إضفاء الصبغة الدينية على مقتل بن لادن، وكان ذلك واضحاً في حرص أوباما على التأكيد على أن ابن لادن لا يمثل الإسلام، إلا أن أول رد فعل للشارع الأمريكي دعا على ابن لادن بالجحيم، و"استجاب"هاكابي" للدعاء بأن رحب بابن لادن في الجحيم بالفعل، مما أثار تساؤلات عدة داخلي: لماذا افترض أوباما أصلاً اننا سنظن أن مقتل ابن لادن موجه للإسلام؟ ولماذا لم ينف أنه موجه للعرب؟ ولماذا يستدعى الدين لتبرير السياسة في حضارة تؤمن أن نهضتها بدأت مع فصل الكنيسة عن الدولة؟ لماذا ينهون عن فعل ويأتون مثله؟ في الحقيقة وإن كنت أرى إزدواجية، إلا أن حيوية المجتمع وحريته تتيح لكل الأفكار أن تظهر، وأن تتصادم، دون اقتتال، أو عنف، أو تهييج. إنه التفكير الذي لا يؤدي إلى التدمير، التدمير فقط من نصيب الآخر. إذا كان الدين يستخدم في أمريكا لتبرير السياسة، فمعناه أن السياسة ليست منفصلة عن الدين في هذا البلد الكبير، ولكن هل هناك دلائل أخرى؟ الإجابة "بعد الفاصل."

------

أستاذ الصحافة بالولايات المتحدة