عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الفرق بين الواقعية والوقوعية

مع انتشار وسائل الإعلام المرئية والمقروءة وتنوعها ومع اتساع مساحة البث التليفزيونى والكتابة الصحفية بصورة أصبح معها ملء الفراغ بالكمِّ أهمّ كثيرا من النوعية والمستوى، فى ظل هذه الوضعية الضاغطة ظهر حشد كبير من الخبراء والباحثين والاستراتيجيين الذين تتغير صفاتهم وتخصصاتهم طبقا للموضوع الذى يعلقون عليه، فإذا كان الموضوع هو الحركات الإسلامية أصبح المذكور خبيرا فى قضايا الإرهاب، وإذا كان الموضوع يتعلق بسوريا أو اليمن أو ليبيا أو العراق أصبح هذا «النفر» أو «الزول» أو «الزلمة» أو «المعوّد» خبيرا فى الاستراتيجية العسكرية بل قد لا يتورع أن يطلق على نفسه متخصصا فى النظام السياسى السورى أو اليمنى أو الليبى أو العراقي.

هذا الحشد من الخبراء لا نعرف عنهم شيئا سوى مخرجاتهم التى يخرجونها علينا ليل نهار، فلا نعرف أين تعلموا؟ أو من أين تخرجوا؟ أو فى أى الموضوعات - إذا كان لديهم تخصص- قد تخصصوا ؟ وعلى الرغم من ذلك صار هؤلاء هم صنّاع الرأي، وحرّاس بواباته، والمتحكمين فى تشكيله وتوجيهيه.
وأصبحت مقولاتهم وآراؤهم هى التى تحرّك النقاش، وتتحكّم فى وجهة الحوار ونتائجه، وللمرء أن يتخيل مآل حالنا إذا قاد أمتنا أنصاف العلماء أو أشباههم. فنصف العالم نصف جاهل كما كان يردد على مسامعنا منذ ربع قرن أستاذنا الدكتور رفعت المحجوب أستاذ الاقتصاد السياسى فى جامعة القاهرة.
ويشارك هؤلاء الخبراء مجموعة من هواة العمل السياسى الذين دخلوا إلى السلطة من نوافذ الفساد أو المحسوبية أو الارتباط بمصالح دولية معينة. هؤلاء جميعا أصبحوا عباقرة «الواقعية» ومنظّريها ومراجع الفكر السياسى الواقعى ورواده، يصبون جام غضبهم واحتقارهم على أولئك المتمسكين بالثوابت والحريصين على المبادئ، والمحافظين على هوية هذه الأمَّة وأمنها القومى ومصالحها العليا.
فدائما يزين هؤلاء الخبراء والسياسيون الهواة أقوالهم وتصريحاتهم بمفهوم «الواقعية»على أساس أنها الكلمة السحرية التى تعطى لآرائهم الشرعية والحجية، وتدحض آراء معارضيهم وتنزع عنها المصداقية وتلقى بها خارج دائرة الحوار.
لذلك وجب أن نناقش هذا المفهوم ونميز بينه وبين نقائضه ومعاكساته، فإذا كان التعريف المتداول للسياسة أنها «فن الممكن» فالممكن لا يعنى الموجود أو المتاح، وإنما يعنى نهاية حدود الإمكانيات والإمكانات، فهى «فن الممكن من أجل التمكين»؛ كما يقول خالد الحسن رحمه الله، المفكر والسياسى الفلسطينى. لذلك تكون السياسة حركة تفاعلية مع الواقع تنطلق منه نحو تحقيق الأهداف باستخدام كل الوسائل المتاحة وتعظيمها واستنفاد كل الإمكانات وتفعيلها. ومهما كانت الإمكانات ضعيفة فإن العنصر الإنسانى يلقى عليها معنى، ويحولها من شيء عديم القيمة إلى قيمة تفوق طاقة الأشياء، فالحجر والحصى فى يد الطفل الفلسطينى له معنى غير تلك الحصى التى يلعب بها آخرون «السيجة»، والملابس عديمة القيمة ضعيفة المستوى على جسد غاندى لها معنى يفوق طيلسانات أعظم الملوك.
ومن ثم فالواقعية تعنى الانطلاق من معطيات الواقع والابتكار فى تفعيلها من خلال رؤية نافذة تخترق حجب الزمن وتغوص إلى ما وراء الواقع لتخلق واقعا أقدامه على أرض الواقع ورأسه فوق السحاب.
فالواقعية التى يتشدق بها أنصاف العلماء من الخبراء والاستراتيجيين وهواة السياسة ليست واقعية بل هى «وقوعية»، أى هى حالة من وقوع الرأس تحت القدم؛ بحيث أصبحت العيون لا ترى إلا حوافر ولا تلامس إلا التراب، وتقبل بالأدنى لأنها فى الأدنى، وتتنفس الهوان لأنها ملتصقة بالثرى والطين وتسعى إلى تبريره واعتباره الحد الأقصى للطموح.
فذلك الفكر الوقوعى وليس الواقعى يدعو أمّتنا إلى الرضا بالموقع الأسفل، وتقبيل اليد التى تهيمن حتى يصبح التفاعل مع المحتل، المنتهك لسيادة الأمَّة وحرمتها، وحريمها الناهب لثرواتها والمدمر لإمكاناتها، شرفا يتشدق به الوقوعيون ويفاخرون به بل يعتبرونه نضالا ومقاومة وجهادا.
ولو تخيلنا أن هذه الفصيلة البشرية الوقوعية كانت هى السائدة فى التاريخ البشرى لخلا هذا التاريخ من الثورات وحركات التحرير والابتكارات والاختراعات وكل الفعاليات التى كانت تمثل خروجا عن المألوف، ولتمَّ اعتبار المخترعين الكبار والفلاسفة العظام مجانين أو حالمين أو سفهاء، ولما تقدمت البشرية خطوة إلى الأمام ولما حصلت الشعوب على حقوقها ونالت حريتها وكرامتها.
ولو طالبنا الأفارقة فى الولايات المتحدة بالوقوعية لما كان هناك مارتن لوثر كنج، ومالكوم أكس ولما كانت هناك حركة لتحرير السود من نير العبودية ونيلهم لحقوقهم الإنسانية. ولو كان زعماء حركات التحرير فى العالم الثالث واقعيين بالمعنى الوقوعى لما كانت هناك ثورات تحرير ولما نالت هذه الشعوب استقلالها وتخلصت من الاستعمار. ولو كان الأوربيون واقعيين لما ظهرت السوق الأوربية المشتركة، ثم الاتحاد الأوربي، ولما كانت هناك عملة واحدة.
لذلك وجب علينا، نحن العرب، أن نحرر الفهم والعقل من فلسفة الوقوعية ونتفاعل مع الواقع كمعطى مادى تستطيع يد الإنسان أن تحوله وتغير معانيه ودلالته.