عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الموت... والجنازة... وروح مصر

 


الموت ليس حدثا عارضاً في الثقافة المصرية، وليس حدثا سلبياً، إنه انبعاث للحياة، وتجديد للوجود الجماعي، وإعادة إحياء لعروق المجتمع التي ضمرت، وتكلست من تراكم الرواسب المادية والترسيبات الإنانية فيها.

الموت جوهر حضارة المصريين القدماء، وسر وجودها، والقيمة العليا فيها، فهو بوابة المجد والخلود والبقاء، هو القوة التي تكسر كل قيود محدودية الزمان والمكان، هو الطاقة التي تنفذ منها الروح إلى العالم الحقيقي، عالم الأبدية والخلود، حيث البقاء اللامتناهي، وحيث السعادة التي لا تنقطع، وحيث التجلي المطلق لكل طاقات وإمكانيات الروح؛ لذلك لم يترك لنا الفراعنة قصورَ حكمهم، ولا منازلهم، ولا أي شئ له علاقة بحياتهم، تركوا لنا قبورهم، ومعابدهم، وكتاب موتاهم، بنوها من أقوى أنواع الصخور التي تقاوم كل عوامل التعرية، وكل تأثيرات المناخ، وبنوا بيوتهم، وقصور حكمهم من الطين، والطوب اللبن، فلم يبق منها إلا ما طمره التراب.
حافظت المسيحية على ثقافة الموت عند الفراعنة، وتبنتها، لذلك كانت القبطية المصرية هي أول من أبدع فكرة الديرية (الاعتكاف في الأديرة) والرهبنة، وهي قيمة روحية تميت الحياة في نفس الإنسان، وتؤهله لما بعد الموت، للخلود والبقاء الأبدي في جنة الإله الخالق، الواحد الأحد.
وجاء الإسلام واستوعب كل هذه الأفكار والقيم، ونقاها مما يتعارض وجوهره التوحيدي الخالص، وحولها إلى ثقافة مجتمعية عامة، لا تزال حية حتى اليوم، تنزل الموت منزلة عليا، وتجعل منه قيمة مجتمعية مركزية، لا تسمو عليها أية قيمة أخرى إلا قيمة توحيد الخالق.
الموت في ثقافتنا قدس الأقداس، ومركز الكون، وقلب رحايا المجتمع، ومدار حركته، الموت هو لحمة الوجود الاجتماعي تلتقي حوله الأنفس الغائبة والمتصارعة والمتباعدة والمتخاصمة، تتحطم على صخرته الصلبة كل نزاعات الدنيا، وتعود العلاقات إلى حالة الفطرة الأولى التي كانت عليه عند بداية الحياة، الموت هو الحياة، والحياة هي لحظة خاطفة عابرة.
صلاة الجنازة تتم دون أذان أو إقامة، فأين أذانها وإقامتها؟.... الإجابة السريعة ...لقد أذن لها في أذن المولود اليمنى عند خروجه من بطن أمه، وقبل أن يسمع أي صوت من أصوات الدنيا، وأقيم لها في أذنه اليسرى في نفس الوقت وعند الولادة أيضا... إذن حياته هي عبارة عن الفاصل بين الإقامة وتكبيرة الإحرام والبدء في الصلاة، ورغم ذلك تمزق قلبي عند موت أبي رغم أني عشت معه أربعة وخمسين سنة، وعاش قبلي ثلاثين أخرى، كأنه لم يعش معي يوما واحدا... حزنت، ولم أستطع البكاء لانني الابن الأكبر الذي ينبغي أن يحتضن أخواته، وإخوته، يبكون على صدره الممزق حزنا، وهو لا يستطيع... وإلا من يصبِّر من؟.
عدت إلى الصعيد بعد دفن أبي... ضريبة قاسية فرضت على كل من أصابته لعنة الغربة، ضريبة يدفعها مدى الحياة، ولعنة لا براءة منها، ولكنني حضرت أيام العزاء، وهي في قريتنا مثل معظم قرى الصعيد التي لم تصبها إنفلونزا السلفية البدوية، حضرت العزاء كاملا لأول مرة بعد ثلاثين سنة غيابا في دنيا الناس.
كل شئ في الصعيد تغير، كل العادات أصابتها لعنة المدنية والحداثة، وتأثير الأسفلت والكهرباء، والتلفزيون والانترنت، إلا الموت والجنازة والعزاء، كل قيم الصعيد أصابه العطب الذي أصاب باقي أجزاء مصر من قبل، إلا الموت والجنازة والعزاء، كما هي لم

يطرأ عليها ذرة تغيير، بل تعمقت وترسخت، وأصبحت أكثر استقراراً في الثقافة والوجدان.
الجنازة في صمت وسكون مهيب، لا نَفَس ولا كلمة إلا همسة واحدة عند تناوب حمل النعش في أذن من سيحمل عنه “آجر وصلي على النبي”...وعند الدفن سكون تام، كل يدعو في سره، أو يبكي في صمت يفجِّر صدره، ثم يتم تقبل العزاء فوق القبر في سكون.
تعود العائلة إلى «المندرة» ينسون كل الصراعات والخصومات، ويتصرفون كجسد واحد، يأتى الأهل من كل أنحاء مصر؛ من القاهر والاسكندرية ومطروح، يعرف كل واحد دوره بتلقائية تطوعية، ودون تقسيم عمل أو إدارة، يصطف الشباب على جانبي مدخل «المندرة».. يقفون عند قدوم المعزين رافعين أياديهم اليمنى يرددون كلمة واحدة «شكر الله سعيكم» ويتوزع الأكبر سنا في الساحة، ويبقى الكبار في الشرفة والقاعة الداخلية.
يأتي المعزون ممثلين عن عوائلهم في مجموعات أقلها ثلاث، يستقبلهم أهل الميت ويجلسونهم في الموضع المناسب، تتردد جملتان من كل طرف، المعزون يقولون «سبحان من له الدوام» ويرد أهل الميت «سبحان الدايم الباقي»... وبعدها يبادر أهل الميت «شكر الله سعيكم».. فيرد المعزون «عظَّم الله أجركم».
عند وصول كل فوج يقرأ المقرئ عدة آيات من القرآن لا تتعدى الخمس، ويختم، ويقف أهل الميت يقولون عباراتهم، وبعدها يقرأ المقرئ عدة آيات أخر... وفي ختامها يقول كبير المعزين «الفاتحة على روح المتوفى، وينصرفون، وقراءة القرآن هي تحية كل عائلة من المعزين، أي لابد ان يُقرأ لهم مرتين، بحيث إذا دخلت عائلة، وكان هناك قرآن يقرأ لا يعتبرونه من تحيتهم، بل هو لمن كان قبلهم، أي أن كل عائلة من العزين لهم قراءتان خاصتان.
وعندما يأتي معزون مسيحيون من أهلنا الأقباط تقال نفس الكلمات، وتتم نفس الإجراءات، وتكون لهم معاملة خاصة، وتكريم خاص، حيث يقرأ لهم المقرئ الآيات التي تعظِّم سيدنا عيسى عليه السلام، والسيدة مريم، بحيث تستطيع وأنت بعيد أن تعرف أن هناك معزين مسيحيين؛ إذا سمعت في الميكروفون قرآنا يتناول قصة المسيح وأمه العذراء عليهما السلام.
ثقافة مصر، وروح مصر تتجلى في الجنازة، كما تجلى تاريخها في قبورها.... إنها عظمة الموت.